«كلما بَعُدَ التاريخُ عن القصصِ والخيالِ، ازداد بُعْد العامة عن تذوقه وتعلمه» - سَهير القلماوي، «ألف ليلة وليلة» /207. ثمة علاقة حميمية جداً بين التاريخ والأساطير، وقبل أن يتحول التاريخ إلى علم يوثق الأحداث والشخصيات ويحلل الدوافع والأسباب ويستخلص العبر والنتائج كانت الأسطورة تلعب دوراً شبيهاً بهذا، وكانت متسقة تمام الاتساق مع الوجدان الإنساني في مراحل الطفولة العقلانية. ذلك أن الإنسان في ما قبل التاريخ كان يتعامل مع الكون وظواهره ومع الحياة ووقائعها بوجدانه أساساً، بعقله الغريزي الخادم للجسد، وحينما قوي العقل المكتسب على العقل الغريزي نشأ العلم في حضن الفلسفة، وتولد عن العلم النظري العلم التجريبي ومنه نشأت التقنيات الحديثة القادرة على فرز الركام واستنباط الحقائق في الزمان المندثر، وربما كان الكاتب المصري الراحل خيري شلبي يشير إلى أمر من هذا القبيل عند توصيفه لجدلية العلاقة بينهما: «إن التاريخ لم ينفصل عن الأسطورة، وبقيت «الحدوتة» قاسماً مشتركاً بينهما وهي بنت الأسطورة، كما صارت الأسطورة مادة للمؤرخ – العقل المفرد – يستعين بها على فهم وجدان الجماعة. وإذا كانت الأسطورة في ما مضى وسيلة فهم وتفسير لكل ما غمض على الإنسان من ظواهر الكون، فإن علم التاريخ هو الآخر وسيلة فهم وتفسير لوقائع الحياة وحركة الشعوب». وبما أنني - شخصياً – ابناً للتراث الشعبي وأسيراً لمؤرخي المدرسة المصرية في التاريخ العربي أجد أن «تاريخ التاريخ» بدأ منذ بداية الوجود الإنساني، فمنذ البداية حاول الإنسان التعرف الى ماضيه لكي يفهم حاضره من ناحية، ولكي يجد في هذا الماضي سنداً ودعماً لوجوده الآني في إطار الجماعة من ناحية أخرى. وإذا كان الإنسان لجأ في بداية تاريخه إلى الأسطورة لتفسير اللغز المتعلق بوجوده في الكون، ومحاولة تفسير الظواهر المحيطة بهذا الوجود، فإن محاولته هذه كانت الخطوة الأولى لبناء المعرفة العلمية سواء في مجال التاريخ أو غيره. لقد كانت الأسطورة القراءة الأولى للتاريخ الإنساني عندما كان العقل البشري ما يزال في مرحلة الطفولة الأولى، وكانت أيضاً بمثابة ترقيع للنقص في ذاكرة الإنسانية عن الماضي. وبغض النظر عن التعريفات المختلفة للأسطورة، فإن الأسطورة كانت وسيلة الإنسان الأولى في المعرفة، فقد ظهرت أساطير الخلق باعتبارها إجابات عن الأسئلة المتعلقة بخلق الإنسان والكون من حوله، والظواهر الموجودة في هذا الكون. لقد كانت هذه الأساطير المحاولات الأولى للحصول على الإجابات التي ينشدها الإنسان لتفسير وجوده وقصته في العالم. لقد كانت الأسطورة توصف على الدوام بأنها أم العلوم، أو «العلم البدائي»، ما يعني أن بدايات العلم بفروعه المختلفة ولدت من رحم الأسطورة، ولم يكن التاريخ استثناءً في ذلك بطبيعة الحال. لقد خرجت المعرفة التاريخية من الأساطير التي تتناول أصول الأشياء والشعوب. هنا نجد أن الجماعة البشرية لجأت إلى أساطيرها تعويضاً عن النقص في المعارف الحقيقية المتعلقة بماضي الإنسان والتطورات التي حدثت في هذا السياق، وهو ما يعني أن «بذرة» التاريخ التي زرعت في تربة الأسطورة أخذت تنمو تدريجياً، وفي شكل مطرد، مع ازدياد تحرر المعرفة التاريخية من الخيال والرمز الذي تتسم به الأساطير. كانت التسجيلات «التاريخية» الباكرة عبارة عن تواريخ حكومات الآلهة، أو أشباه الآلهة، فقد كان الملوك في العالم القديم عموماً يبررون حكمهم المطلق بالزعم بأنهم من نسل الآلهة. أو بأنهم الواسطة بين البشر والآلهة وبأنهم حين يموتون يدخلون في زمرة الآلهة. لقد كانت فكرة الملك/ الإله سائدة بين الكثير من دول العالم القديم لتبرير مثل هذه السلطة المطلقة (بل إن الإمبراطورية الرومانية عرفت نوعاً من عبادة الإمبراطور في القرن الثالث الميلادي) وانعكس ذلك في الأساطير ذات المضمون التاريخي أو شبه التاريخي (مثل ملحمة جلجامش، والإلياذة والأوديسيا) وهنا نجد الأسطورة تحكم التاريخ وإن كانت لا تلغيه أو تستبعده، فالأسطورة حكاية مقدسة تلعب أدوارها الآلهة وأشباه الآلهة. ثم نزلت الأسطورة، في مرحلة لاحقة من سماوات الآلهة إلى دنيا الإنسان، لكي ترصد تاريخه الباكر وتسجل قصة رحلته في الكون وفق شروطها، وفي إطار رموزها، وقد اختلف الباحثون حول هذا الأمر، إذ يذهب بعضهم إلى أن الأساطير «تسجيل تاريخي» للأحداث التي جرت على امتداد ماضي الإنسان في المجتمعات التي انتشرت على سطح هذا الكوكب. في حين يذهب آخرون إلى القول أن الأسطورة تمثل نوعاً من التاريخ العرقي (القبلي) المتوارث عبر الأجيال المتعاقبة التي تناقلته بالتلقين الشفاهي، ونادراً ما تأخذ الأساطير أشكالاً أو نماذج محددة وإنما تنطوي غالباً على عناصر يمتزج فيها الخيال بالخرافة. وعلى حد تعبير قاسم عبده قاسم: «أن الأسطورة لا تحمل التاريخ كله، فهي ليست «تاريخاً» في التحليل الأخير وإنما يقوم بناؤها على نواة تاريخية ما، وغالباً ما تكون الصياغات الأسطورية لهذه «النواة التاريخية» مثقلة بتراكمات ثقافية تعبر عن وجدان الجماعة الإنسانية التي أنتجت الأسطورة وعن إدراكها لذاتها ووعيها بنفسها من ناحية، وعن رؤيتها للكون ودورها في الكون من ناحية أخرى». ويمكن القول من دون حذر شديد إن «هذه الأسطورة في الوقت ذاته تحمل تصوراً نفسياً تعويضياً لصالح الجماعة أكثر من كونها تجسيداً للواقع «التاريخي». وليس معنى هذا الكلام أن الأسطورة نتاج خالص للخيال وحده، وإنما هي ترجمة لملاحظات واقعية لمظاهر الكون ولطبيعة الأحداث الجارية وإن أخفقت في الوصول للحوادث الجارية في إطار أدبي فني يخدم الأهداف الثقافية/ الاجتماعية التي يحتاج المجتمع إلى تحقيقها من طريق أساطيره. وكان الفضل لهذه الأساطير في أننا عرفنا ما عرفناه عن تجارب الأولين وخبراتهم المباشرة التي تراكمت منذ أقدم العصور، والتي تسبق «التاريخ المكتوب». ومن هنا يمكن القول إن الأساطير «نظام فكري متكامل استوعب قلق الإنسان الوجودي، وتوقه الأبدي لكشف الغوامض التي يطرحها محيطه...»، على حد تعبير فراس السواح. ويرى فريق من الباحثين أن أساطير الطوفان، أو الدمار بالنار السماوية، أو الأعاصير وهي أساطير تتسم بالشمولية، وتتكرر لدى معظم الشعوب، تحمل دلالات على تجارب وخبرات عاناها الجنس البشري في بداية تاريخه. لقد سربت هذه الأساطير، بخاصة ما يتناول منها التكوين والأصول الأولى، وفصل السماء عن الأرض، بعض تفاصيلها إلى الكتابات التاريخية اللاحقة في المنطقة العربية بالشكل الذي يكشف عن أن تأثير الأسطورة ظل موجوداً ومتوارثاً في المنطقة نفسها، ومن ناحية ثانية فإن هذه الحقيقة تكشف عن حقيقة أخرى مهمة وهي أن المعرفة التاريخية لم تستطع أن تتخلص تماماً من الأثر الأسطوري في بنائها. فالتاريخ ينسج مع الأسطورة علاقات كبيرة مرئية وغير مرئية، ليس هناك تاريخ صاف وعلمي بالمعنى الموضوعي وفي شكل مطلق، فالتاريخ كثيراً ما يمحو فواصله بين الحقيقة الموضوعية، والحقيقة المتخيلة، وقد يحتاج في بحثه المستميت عن الحقيقة إلى ترميمات لا يقربها منه إلا الأسطورة التي ترتكز إلى القرابة مع التاريخ. تراث