كان جواب مرجع في البيت الأبيض صارما غاضباً في نفي تساؤل وجّهته إحدى الصحف الأميركية حول ما إذا كان لصواريخ التوماهوك التي أُطلقت باتجاه قاعدة الشعيرات الجوية في سوريا دوافع تتعلق بالسجال السياسي البيتي الأميركي. كان السائل يغمز من قناة التحقيقات الجارية في الولايات المتحدة حول تورط روسيا في اختراق عدد من المؤسسات الأميركية بما في ذلك التدخل لترجيح حظوظ المرشح دونالد ترامب على منافسته هيلاري كلينتون للفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر الماضي. أطاحت اتهامات التواصل مع موسكو بمستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين، كما أدت الأسبوع الماضي إلى تنحي النائب الجمهوري ديفن نيونز المقرب من ترامب من تحقيق نيابي حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الاميركية، فيما لم توفّر الانتقادات حول هذا الشأن شخص ترامب نفسه ملمحة إلى ملفات معينة قد تربطه بالجانب الروسي. الأمر لا يروج فقط داخل مجالات المناكفة السياسية او تشي به سطور المقالات التي تخرج بها الصحافة المعارضة للرئيس، بل إن التحقيقات على مستوى الكونغرس جارية وقد تحمل في ثناياها ما قد يقض مضجع ساكن البيت الأبيض منذ حوال المئة يوم. قرار قصف "الشعيرات" بالنسبة لمصادر البيت الأبيض الرسمية كما على لسان ترامب، هو وليد لحظة انفعالية لم يستطع فيها الرئيس تحمل صور ضحايا خان شيخون الذين قضوا خنقا بعد أن داهمهم "سارين" الأسد. أجلس ترامب أنفعالاته على تقارير من الأجهزة الأمنية الأميركية التي تؤكد مسؤولية نظام دمشق في استخدام السلاح الكيماوي المحظور في قصف قامت به طائرات تابعة له انطلقت من قاعدة الشعيرات. وعليه فإن حيثيات الحدث بالنسبة لإدارة الرئيس لا تحتمل تأويلات واجتهادات خارج السياق الحقيقي المرتبط بالجريمة وبالمعلومات عنها وبالإجراء العقابي المحسوب ضدها. وسواء صدقنا الجانب العاطفي لقرار الرئيس الأميركي أم لم نصدقه، فإن المنظومة الأمنية العسكرية للولايات المتحدة كانت مواكبة لمزاج الرئيس مقترحة خيارات شتى على نحو يوحي أن "أمن الولايات المتحدة"، وفق رسالة الرئيس إلى الكونغرس في ما بعد، كان يستدعي هذا التحرك في ذاك التوقيت ووفق تلك الجرعة الصاروخية. وطالما أن "أميركا" تحركت، حتى دون استشارة الكونغرس، فإن ردّ الفعل الداخلي، خصوصا من قبل خصومه الديمقراطيين وأمبراطوريات الإعلام المناوئ، وقف موّحدا خلف قرار الرئيس، ليس بالضرورة تأييداً له بقدر ما كان تعبيراً عن رؤية أميركية عامة في مقاربة الشأن السوري تم كبتها إبان عهد الرئيس السابق باراك أوباما. ولا يجب اغفال الضغوط التي مارستها "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة على ترامب في مسألة العلاقة مع روسيا كمحفّز لقرار الرئيس الأميركي في توجيه رسائله الصاروخية الحازمة إلى ما يعتبر بالمعنى الإستراتيجي الدولي محمية روسية. أبدى دونالد ترامب المرشح إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكاد يسحب هذا الإعجاب على رأس النظام السوري بشار الأسد نفسه. نفخ هذا الموقف رياحا داخل أوروبا التي باتت بعض منابرها الشعبوية المتطرّفة تتحدث بلهجة ترامبية عن فضائل بوتين ومحاسن الأسد. غير أن الملفات التي نبتت، والتي أجمعت عليها كافة أجهزة الأمن المناط بها الدفاع عن البلاد حول اختراق روسي خطير للمنظومة السياسية الأميركية، سلّطت مجهراً ثقيلاً على سلوك الرئيس ومواقفه في الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة في العالم. أخرج ترامب مستشاره المقرب جداً ستيف بانون من مجلس الأمن القومي. وبغض النظر عما إذا كان أمر ذلك ترجيحا لكفة جاريد كوشنر، صهر الرئيس، أو نتاج صراع مراكز القوى داخل الإدارة، فإن خروج بانون، المدافع عن التفوق الأبيض وعن أطروحات عنصرية انعزالية متطرّفة والمروّج الأول لشعار "أميركا أولا"، يعيد تموضع الولايات في العالم وفق منظومة قرار براغماتية ميدانية تساهم بها "الدولة"، وليس وفق نزق أيديولوجي ينهل ديناميته من نصوص متقادمة. يبتدع عتاة الإدارة الأميركية الحالية تخريجة لتلميع شعار ترامب الشهير "أميركا أولا". رسمت التوماهوك في ترحالها فتوى بأن الأولوية التي يريدها الرئيس لبلاده تشمل أن تكون "أميركا أولا" في الخارج أيضا. تنطلق الصواريخ الأميركية لضرب الهدف السوري في الوقت الذي يتناول به ترامب العشاء مع الرئيس الصيني شي جين بينغ. قبل وبعد ذلك تحدثت واشنطن ورئيسها عن أن الولايات المتحدة ستضطر لاتخاذ إجراءاتها الخاصة ضد كوريا الشمالية إذا لم تقم الصين بممارسة ضغوط حقيقية لضبط انفلات بيونغ غانغ. وفي معاني التوماهوك أيضا أن واشنطن ستضطر للقيام بنفسها بما أوكلته الإدارة الأميركية السابقة لموسكو والتي، وفق التقييمات الأميركية، فشلت في مهمتها. لم تعلن الولايات المتحدة عن طبيعة وظيفتها في العالم تحت إدارة ترامب. قال ترامب إن قراره عاطفي وأنه ليس أوباما في مقاربة نفس الحدث المأساوي. فهم من وجبة الصواريخ وهوامشها المتعلقة بإبلاغ روسيا، أن الأمر موضعي مؤقت وأن لا تغير في موقف واشنطن. خرج وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من طشقند في أوزبكستان ليعلن للعالم غير ذلك. ذكّر الرجل سامعيه بأن سلوك واشنطن شبيه بسلوكها الدول الغربية التي هاجمت العراق عام 2003 دون موافقة من الأمم المتحدة. فإذا كان تقييم موسكو دقيقا فذلك يعني أن الروس يعلنون أن الولايات المتحدة عادة زعيمة لما يسمى بـ "العالم الحر" وانا "أميركا أولا" العزيزة على قلب ترامب باتت حقيقة تطيح بموسم القطبيات المتعددة التي راجت في عهد أوباما منزلة الولايات المتحدة عن عرشها المكين. بدا أن الرئيس الصيني يبحث في واشنطن عن خطوط توافق في ترتيب "البزنس" في العالم ويسعى للاهتداء إلى تسوية مع واشنطن توقف حرد ترامب وعتبه على بكين. لم يبد الرئيس الصيني الضيف تبرما من سلوك مضيفه ضد الأسد ولم يعر توقيت ذلك أثناء ضيافته بالا كبيرا. بدا رد فعل بوتين بالمقابل صبيانيا متعجلاً، وبدا تحريكه لقطع بحرية مناورة مشهدية تستهدف ستر عورات الحدث. فزعيم الكرملين لم يأمر باعتراض التوماهوك وظهر عاجزاً عن حماية نظام دمشق من نزوات واشنطن واكتفى بالتنعم بمنّة إبلاغ واشنطن لموسكو بالضربة للإسراع في لملمة التواجد الروسي، فيما نشطت الدبلوماسية الروسية لإعادة الوصل مع تل أبيب وأنقرة وطهران علّها ترتجل مظلات واقية لقيصر الكرملين تلفت نظر واشنطن لمفاتن ما نسجته روسيا من علاقات في غياب أوباما وإدارته. غضبت موسكو كثيراً. بوتين اعتبر ليلة التوماهوك عدواناً وواحد من دبلوماسييه في نيويورك اعتبرها إرهاباً، ومع ذلك لم تطلب روسيا إلغاء زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيليرسون إلى موسكو الثلاثاء. تيليرسون نفسه الذي يوصف بأنه صديق لبوتين ويتمتع بعلاقات جيدة مع موسكو أرسل قبل تحركه صوب روسيا سلسلة مواقف صقورية، مخصّبة بغرور غير دبلوماسي، يشبه عتب الزبون على تقصير في مستوى الخدمات المفترض أن يحترمه العقد. يطل سيّد الدبلوماسية الأميركية على موسكو معلناً تبرمه من شبهة روسية تتعلق باتفاق سحب السلاح الكيماوي السوري عام 2013، معتبرا أنه "إما روسيا متواطئة أو غير مؤهلة ببساطة على الوفاء بالتزاماتها". تمعن منابر الإدارة في واشنطن عشية لقاء تيليرسون بالمسؤولين الروس على إظهار تصلّب لا يشبه إعجاب ترامب ببوتين ولا تواطؤ مايكل فلين مع سفير روسيا في الولايات المتحدة. الكونغرس يجري مداولات لاعتبار الاسد مجرم حرب يجب محاكمته، ومندوبة الإدارة في مجلس الأمن نيكي هايلي التي أعلمتنا قبل أسبوع أن مصير الأسد ليس أولوية أميركية تعلن هذه الساعات أن لا مستقبل له في سوريا الغد. على وقع هذا الضجيج ترسل واشنطن رسائلها معلنة أن رئيسها ليس دمية في يد بوتين وأن تأييد "العالم الحر" لصواريخه يمحضه ويمحض الولايات المتحدة الاعتراف بموقع واشنطن الأساسي قي قضايا الحرب والسلم الدوليين. برع بوتين بمهارة في اللعب في ملعب سوريا الفارغ. لم يعد ترامب يقبل بـ "الفراغ الذي سببه أوباما". لم تغير واشنطن أولوياتها، تبدلت فقط قواعد اللعبة وتغير إسم اللاعب الأكبر. محمد قواص صحافي وكاتب سياسي