يستغرب البعض إقدام الرئيس السوري بشار الأسد مرة أخرى على استخدام السلاح الكيماوي في بلدة خان شيخون في منطقة إدلب. يرى هؤلاء أن توجيه أبشع ضربة بهذا السلاح منذ صيف 2013 ضد مدنيين أكثرهم من الأطفال، جاء بعد أيام على إعلان الإدارة الأميركية أن إزاحة الأسد لم تعد أولوية لها، وأن تقرير مستقبله يعود للشعب السوري. وهو ما يعني استمرار الانكفاء الأميركي، وقبول الإدارة ببقاء الأسد في أي حل سياسي للأزمة السورية. كل ذلك مع بقاء الدعم الإيراني، وغض النظر عن الميليشيات الداعمة له، وتراجع الدعم للمعارضة. تمكن الأسد بفضل ذلك من تفادي هزيمته وإسقاطه. كان في إمكانه استثمار هذه التحولات لمصلحته بتبني التهدئة، وفرز القوى الإرهابية عن المعارضة المعتدلة، وتعزيز خيار الحل السياسي. لكنه لم يفعل. الدهشة من هذا السلوك قد تكون مفهومة، لكنها ليست مبررة. الأسد لم ولن يفعل ما يتوقعه منه البعض. بالنسبة إليه الموقف الأميركي قبل الضربة الأخيرة مع الدعم الروسي يعطيه ضوءاً أخضر دولياً مفتوحاً للإمعان في ارتكاب المزيد من جرائم الحرب لترويع المدنيين وإخضاع المعارضين لفرض نصر عسكري يحلم به، وبالتالي فرض الحل السياسي كما يرتئيه هو. حقيقة الأمر أن بشار الأسد لا يستطيع القبول بحل سياسي بعد انفجار الثورة وتداعياتها. كان هذا ممكناً إلى حد ما قبل ست سنوات. حينها لم تكن هناك ثورة بقدر ما كانت احتجاجات جماهيرية تطالب بإصلاحات، وليس بإسقاط النظام. تحولت الاحتجاجات في شكل مطرد إلى ثورة أمام تصاعد القمع الدموي لها. عندها أدرك الأسد أن الحل السياسي المطلوب سيقود في نهاية المطاف إلى نهاية حكمه كأول وآخر وريث لمشروع حكم السلالة - الطائفة. لا يستطيع الاعتراف بأنه المسؤول الأول عن هذا المآل الذي انتهت إليه الأمور، ووضعه في قلب المأزق. لا يملك التراجع، ولا يمكنه قبول الخيارات المطروحة. لديه دائماً شيء مضمر في سلطته وحكمه وسلوكياته وخطاباته. يلجأ كثيراً للمطولات والسفسطة والكذب المباشر. يقول الشيء، وهو يضمر عكسه تماماً. يقول إنه مع الحل السياسي، ومع خيار الشعب، والديموقراطية، وهو يفعل العكس تماماً. هذه معادلة سياسية لا يستطيع الأسد البقاء من دونها. كان في إمكانه، وقبله كان بإمكان والده فرضها على السوريين قبل الثورة من خلال أكثر من 17 مؤسسة أمنية. جاءت الثورة وعنجهية التعامل الدموي البشع معها لتنسف المعادلة وتجعلها من مخلفات ماضٍ انقضى. مأزق الأسد الآن أنه يصر على إمكان ترميم ما لم يعد بالإمكان ترميمه ولا حتى بالسلاح الكيماوي. أربعة عوامل تحول دون ذلك. الأول أن الأسد لم يعد سيد المشهد في سورية كما كان قبل الثورة. جيشه في حال إنهاك بعد ست سنوات من الحرب. وفوق ذلك تحول إلى ميليشيات أخرى هدفها حماية الرئيس وطائفته، قبل أي شيء آخر. العامل الثاني أن الذي يبقي الأسد في مكانه قوى وميليشيات أجنبية، وليس الجيش السوري أو الشعب السوري. ثالثاً أن السلوك العسكري لقوات الأسد في الحرب، وتحالفاته المحلية والإقليمية أظهرا على السطح حقيقة النهج الطائفي للنظام الذي يتربع على سدته. وهو ما يتضح من سياسة التهجير والتغيير الديموغرافي لمكونات المجتمع السوري، وأن الطائفة السنية هي الهدف الرئيس لهذه السياسة، ولعمليات القتل والتدمير التي ينتهجها الأسد وحلفاؤه الإيرانيون. أمام هذا الواقع لم يعد أي حل سياسي ممكن من دون قبول غالبية الشعب السوري بذلك طوعياً. وهذا ما يؤرق الرئيس. المفارقة أن هذه الغالبية كانت قابلة لرئاسته ورئاسة والده لما يقرب من نصف قرن. وها هو يكافئهم بالقتل والتهجير وتدمير مدنهم على رؤوسهم، واستهدافهم بالسلاح الكيماوي. رابعاً أن تدويل الأزمة ربط حلها بمصالح إقليمية ودولية، ولم يعد في إمكان الرئيس فرض حل على الداخل والخارج معاً كما كان في إمكانه أن يفعل قبل الثورة. هنا تبدو أوهام الحل السياسي مع الأسد. الرجل وريث تقليد لا يعترف بالسياسة أصلاً، ولا بالحلول السياسية خارج حدود القمع والإكراه والاستهتار بحياة وحقوق شعبه. الحل الوحيد الممكن بالنسبة إليه يقتضي العودة للمعادلة القديمة. يعتبر أن أي حل آخر إنما يعبر عن موقف عدواني تجاهه، ومتعاطف مع «الإرهابيين». الحل بالنسبة الى الأسد معادلة صفرية: إما أن يبقى هو، أو أن تذهب سورية كلها للجحيم. وهذا تماماً ما يعبر عنه قولاً وفعلاً منذ ما قبل الثورة وحتى هذه اللحظة. ينظر البعض إلى استخدام رئيس السلاح الكيماوي ضد شعبه من زاوية أخلاقية، أو سياسية مع شيء من العقلانية. يغيب عن هؤلاء أن استخدام الأسد الأسلحة التقليدية ضد شعبه لا يقل فتكاً وبشاعة ولا أخلاقية من استخدامه السلاح المدمر. وأغلب ضحايا الأسد قضوا أو هجروا بالسلاح التقليدي. الرئيس ينظر إلى الموضوع بحسابات سياسية باردة. الأمور بالنسبة إليه تقاس بنتائجها وليس بأدواتها. لا فرق لديه بين سلاح تقليدي أو مدمر. إما أن يبقى هو أو تذهب معه سورية. وهذا ما قاله في شكل مباشر في آخر حديث له قبيل ضربة خان شيخون. كان يتحدث لصحيفة «فيسيرنجي ليست» الكرواتية. وكما نقلته صحيفة «تشرين» السورية الخميس الماضي كان حديثه منصباً في أغلبه على شجب الأميركيين والأوروبيين، وكل الدول التي تدعم «الإرهابيين». لم يستثنِ من ذلك كما هي عادته إلا روسيا وإيران. عبر في هذا الحديث عن شعور عميق بالعزلة، وأنه مستهدف ليس فقط من معارضيه، بل من أغلب العالم. لكن أهم وأخطر ما قاله، كما نقلته الصحيفة السورية، بالنص هو أنه «لا يوجد لدينا خيار سوى أن ننتصر... إن لم ننتصر في هذه الحرب فهذا يعني أن تُمحى سورية من الخريطة. لا يوجد خيار آخر في مواجهة هذه الحرب، لذلك نحن واثقون ونحن مستمرون ونحن مصممون». ومعنى أنه «لا يوجد لدينا خيار سوى أن ننتصر» هو أن جولات المفاوضات في جنيف وآستانة بالنسبة الى الرئيس السوري ليست أكثر من لعبة لكسب الوقت. وهو يعبر بذلك بكل دقة عن حقيقة موقفه الرافض للحلول المطروحة. والأخطر قوله إنه «إنْ لم ننتصر في هذه الحرب، فهذا يعني أن تمحى سورية من الخريطة». ومعنى هذا من دون مداورة أنه إذا لم يسمح للأسد بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ومعها إعادة العمل بالمعادلة السياسية القديمة، فإنه ذاهب إلى خيار تقسيم سورية، وبالتالي قبول محوها من الخريطة. هذا كله واضح من تاريخ النظام السوري قبل وبعد الثورة. ما ليس واضحاً هو الموقف الروسي. هل يعقل أن موسكو مغيبة عن سياسة الأسد في استخدام السلاح الكيماوي، وهو استخدام تكرر كثيراً منذ ما قبل صيف 2013، هي عراب ما سمي صفقة تسليم السلاح الكيماوي للأسد. واستمر استخدامه بعد الصفقة، ما يعني أن موسكو تعرف أنه لم يتم تسليم هذا السلاح بالكامل. ثم إنها تستهدف بطائراتها المدنيين بنفس بشاعة استهداف النظام. إصرار موسكو على حماية الأسد والدفاع عن ممارساته، وتهديدها بالصدام مع واشنطن في سبيل ذلك يوحي بأن روسيا تعرف مسبقاً باستخدام النظام السلاح الكيماوي، وأنها بسبب ذلك لا تدافع عن الأسد فقط، بل تدافع عن سياساتها ومكاسبها في سورية. وما ليس واضحاً أيضاً هو موقف إدارة ترامب. هل ضربتها الصاروخية الأخيرة قاعدة الشعيرات مجرد رسالة لوقف استخدام الكيماوي؟ أم بداية لانعطافة في اتجاه استراتيجية تختلف عن السياسة التي ورثتها من إدارة باراك أوباما؟ الأمر الثالث الذي ليس واضحاً يخص الدول العربية وموقفها مما يحدث لسورية والمنطقة. صحيح أن الأسد حوّل بلده إلى ساحة لصراعات إقليمية ودولية فقد فيها شرعيته وتحول إلى ورقة تفاوضية في يد الروس. لكن الدول العربية تراجع دورها أيضاً في هذه الساحة أمام أدوار الروس والأميركيين والإسرائيليين والأتراك والإيرانيين. بلد عربي أصبح بفعل رعونة ووحشية قيادته مسرحاً لنفوذ ومصالح دول غير عربية. للدول العربية رأي في ذلك، وتعرف أكثر مما هو على السطح. والمدهش في هذا السياق ليس استخدام الرئيس السوري السلاح الكيماوي ضد شعبه. الأكثر إثارة للدهشة أن بعض الدول العربية تؤيد بقاء الأسد، وتتمسك بوهم أنه لا حل سياسياً من دون ذلك. لكنها لا تتجرأ على إعلان هذا الموقف. وهذا علامة على الضعف وفقدان رؤية بحجم الدولة كخيار والمنطقة كملاذ. وبقدر ما أن هذا مدهش، إلا أنه مخيف، لأن ما بدأ في سورية قد لا يتوقف وينتهي هناك. * كاتب وأكاديمي سعودي