قدّم العقيد معمر القذافي، كما يُزعم على نطاق واسع، تمويلاً سرياً يصل إلى 50 مليون يورو لحملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية للمرشح نيكولا ساركوزي في العام 2007. كان يريد وصول هذا المرشح اليميني إلى قصر الإليزيه، وكان له ما شاء. بعد أربع سنوات من ذلك، وجد القذافي نفسه في أنبوب للصرف الصحي بعدما قُصف موكبه وهو يحاول الفرار من مدينة سرت. كان للطائرات الفرنسية التي أرسلها ساركوزي دور لا يُستهان به في مصير القذافي في نهاية «ثورة فبراير» التي أطاحت حكمه. ندم القذافي بلا شك على رهانه على «حصان ساركوزي». الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجد نفسه، كما يبدو، في وضع مماثل لوضع القذافي مع ساركوزي. بمعنى أن الرجل الذي دعمه سراً للوصول إلى البيت الأبيض، كما تقول الاستخبارات الأميركية، يتحداه علناً بدل أن يسعى إلى التقارب معه. كانت سورية نقطة تلاق محتملة بين بوتين والرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب. التلاقي كان في التعاون على إلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش» وبقية «الجماعات الإرهابية» (مثل «النصرة» وفق التوصيفين الروسي والأميركي)، كما تمثّل في تخلي الأميركيين عن الهدف القاضي بإنهاء حكم الرئيس السوري بشار الأسد، على الأقل في المرحلة المنظورة. تغيّر كل ذلك بعد الهجوم الكيماوي الذي استهدف خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي. فقد رد ترامب فوراً بإعلانه «تغيير موقفه من الأسد»، وبمعاقبة النظام السوري بتدمير مطار الشعيرات في حمص والذي انطلقت منه الطائرات التي قصفت خان شيخون المنكوبة. لم يوقف رد ترامب عملية التلاقي التي كان يتطلع لها بوتين، بل أعادتها إلى الوراء بأشواط. هل يمكن القول، إذاً، أن شهر العسل بين بوتين وترامب قد انتهى قبل أن يبدأ؟ قد يكون هذا هو الواقع فعلاً، لكن الخطوات المقبلة من كل من الزعيمين ستعطي مؤشراً إلى كيف ستسير الأمور بينهما في المستقبل. ترامب، التاجر المتمرس الذي حقق ثروة بناء على خبرة لا يمكن الاستهانة بها في مجال التعامل من منافسيه والفوز عليهم، لعب ورقته الأولى أمام بوتين بذكاء حاد. لم يلوّح فقط بـ «ورقة القوة الأميركية»، بل ترجمها فوراً على الأرض بضرب مطار لقوات الأسد، قائلاً بصراحة إن استخدام الكيماوي لا يمر عنده مرور الكرام (بدا عليه التأثر فعلاً إزاء مشاهد الأطفال القتلى في خان شيخون). لكن هذا الرد العسكري من ترامب بدا، عن عمد، محدوداً بهدف إفهام نظام الأسد أن استخدام الكيماوي «خط أحمر». وعلى رغم التلويح الأميركي بمزيد من الضربات، إلا أن الموقف الرسمي الأميركي بات الآن ضبابياً. وهذا الغموض في الموقف الأميركي ربما يكون مقصوداً من ترامب نفسه. فالرئيس الأميركي، بحكم خبرته التجارية، يعرف أن جزءاً من معركة الفوز على الخصم يقضي بعدم كشف خططه الحقيقية. وهذا ما يبدو عليه اليوم وضع بوتين الذي لا يعرف ما إذا كان ترامب سيكتفي بضربة الشعيرات أم أن هناك فعلاً خططاً أشمل تقضي بإطاحة الأسد. لكن الرئيس الأميركي «التاجر» يجد نفسه في المقابل أمام جاسوس لا يمكن أيضاً التقليل من شأن ذكائه. فهو تمكن خلال سنوات أوباما الأخيرة من تغيير قواعد اللعبة السورية وفرض نفسه لاعباً أساسياً فيها، قبل أن يأتي ترامب لينافسه فيها. وتمثّل رد بوتين على «الصفعة» الأميركية في وقف التعاون مع الأميركيين عبر «الخط الساخن» الذي يهدف الى منع حصول صدام في المجال الجوي السوري المزدحم بين الطائرات الأميركية والروسية التي تشارك كلها في توجيه ضربات للأهداف ذاتها أحياناً. قد يكتفي ترامب وبوتين عند هذا الحد من التصعيد، وقد يلجآن إلى خطوات تصعيد أكبر. ولكن مهما كانت خطوتهما المقبلة، فإن خطط شهر العسل بينهما تبدو مؤجلة، إن لم تكن قد أُلغيت نهائياً. ربما كان من الخطأ أصلاً التفكير في شهر عسل قبل الاتفاق على شروط عقد القران. والخطأ الأكبر هنا، كما يبدو، أن «الجاسوس» قد استهان بـ «التاجر» ... وربما يشعر بالندم على دعم حملته الانتخابية، كما ندم القذافي من قبله على دعمه ساركوزي.