الذاكرة الثقافية تتحدى ذاكرات مختلفة مثل ذاكرة المعاناة أو ذاكرة النحس المتعلقة بالحماقات البشرية والكوارث البيئية أي: ثالوث النحس، وهي الحروب والمجاعات والأمراض، وهي قد شكلت ذاكرة الجزيرة العربية لقرون طويلة، وتحتسب عند المؤرخ عبدالرحمن السويداء بين عامي 1446-1931، وهو يقتفي أثر أستاذه المقريزي (1364-1442) الذي خص الكوارث البيئية والاجتماعية والاقتصادية كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة". ولا تنتعش الذاكرة أو كل أنواع الذاكرات دون علاقة بالماضي حيث تصنع الأساطير أو التاريخ، "فالعادت والتقاليد والمؤسسات والقوانين والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والفنون واللغة والملابس والإنجازات المادية على شتى المستويات وخصائص الفكر الإنساني.. كلها أمور ليست وليدة الحاضر" (قاسم، 2000، ص 76). وخلال القرن العشرين الذي وقع تاريخياً ضمن حالة حدوث واحدة غير أنه يحتمل التفسيرات العدة سنجد أنه يمكن أن تنرسم ذاكرة الفنان لتغدو علامة عصر، وتخرج من تاريخها نحو أسطورية تجعل منها مواد الذاكرة لأي أمة تفخر بما تعنيه وتمثله هذه الأسطورة وما تنطوي عليه من تاريخ وقيم وأفكار ومبادئ والأشخاص الذين مثلوا هذه التجربة الإنسانية الملهمة بالنسبة لأي أمة. ولعل شخصية مثل زرياب أبو الحسن علي بن نافع (ت. 845) تمثل إحدى هذه الشخصيات الملهمة على المستوى الثقافي في ترحالها من بغداد إلى قرطبة، وحين قدم الأخوان رحباني صورة غنائية "زرياب" (1956) شارك بها فيروز وكارم محمود، وقد قدم توفيق الباشا في نفس الفترة صورتين غنائيتين عن شاعرين: ابن زيدون" و"ابن خفاجة" شارك بها وداد وزكي ناصيف، وتحكي هذه الصورة الغنائية عن آداء بارع لصوت مغنية اسمها لمياء (فيروز) تتحاور مع صبايا عنه، وحين يلقاهن يتمنين بقاءه معهن غير أنه كثير الترحال وعلل ذلك في المشهد الأخير من الصورة الغنائية، ونوردها لما لها من صلة في مقدمتنا هذه: "لمياء: ولمَ الترحال يا طائر دوماً؟ زرياب: إنني أرحل في إثر الأماني فإذا ما وقف المنشد يوماً صار مغموراً وخانته المعاني لمياء: ولمن تشدو وتروي وتغني؟ زرياب: للندامى للحيارى للحسان لقلوب تعرف الحب وتصغيه ولأجيال بأبعاد الزمان المجموعة: زرياب زرياب للأيام ذكراك سحرية الأحلام زرياب والغيد والأنسام تهواك يا رائع الأنغام والفجر مرماك والليل ملهاك زرياب زرياب للدهر ذكراك". يؤسس هنا لقيمته الفنية في ترحاله الطموح وطيه الأرض سفراً، وغنائه الحر للبشر (الندامى والحيارى والحسان) لكنه يشير إلى أنه يتوجه إلى "أجيال بأبعاد الزمان" وهو ما يعززه ختام المجموعة "زرياب زرياب للدهر ذكراك".