حلب: هانا لوسيندا سميث ربض سام خلف كومة من أكياس الرمال.. على يمينه السوق وعلى يساره قناص. ينتظر سام أن يخف صوت زخات الرصاص قبل الفرار الجماعي الذي يتبع ذلك. في بعض الأيام يطلق القناص خمس رصاصات وأحيانا ثلاثين.. لكن الثابت أنه لا يمضي يوم إلا ويكسر فيه دوي الرصاص صمت المكان. كان لقاؤنا في معبر بستان القصر، المكان الوحيد الذي يستخدمه مواطنو حلب للعبور من الجانب الذي يسيطر عليه الثوار إلى المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة. كان هو الطبيب الوحيد هنا لعلاج أصحاب الحظ العاثر الذين يصيبهم رصاص القناصة. لا تحتوي عيادته، الواقعة على بعد خمسة أمتار من زقاق القناصة، سوى على سرير واحد وكيس من المعدات التي تبرع بها الهلال الأحمر القطري. يقول: «اليوم، عند الظهيرة، قمت بعلاج شخص أصيب برصاصة في ذراعه. كان طفلا، فالأطفال يشكلون النسبة الأكبر بين المصابين. أعتقد أن القناصة لا يستهدفون سوى الأطفال. الأطفال وفقط. لكن الطبيب ذاته لا يزال شابا، ذا وجه مشرق ولكنة أميركية، ويتحلى بروح الدعابة، عيناه متلألئتان فوق قناع الجراحة الذي يرتديه وينزله إلى ذقنه في وقت الراحة. سام نفسه يبدو أكبر قليلا من الصبيان الذين لم يبلغوا سن العشرين.. لكنه في الواقع يبلغ خمسة وعشرين عاما، فهو ابن لأحد المنفيين السوريين الذين استقروا في كندا. لم يكن ينبغي له أن يكون هنا. قال: «كنت في السنة الأخيرة من دراستي لأتخصص في جراحة القلب، لكنى غادرت كندا لآتي إلى حلب. كانت هذه هي المرة الأولى التي يزور فيها سوريا. وأضاف: «لم أتمكن من الحصول على تأشيرة دخول قبل الثورة»، نظرا لرفض السفارة ذلك، «لكن هؤلاء أهلي وعائلتي»، ولذا ترك حياة الراحة والسلامة الكندية للنوم في غرفة في المستشفى الميداني حيث يعمل، وفي وقت راحته كان يأتي إلى بستان القصر ينتظر فتح القناصة النار المحتوم. يقول: «أفعل ما ينبغي علي القيام به هنا، إذا كانوا بحاجة إلى الذهاب إلى مستشفى أطلب شخصا أن يأتي ليحملهم إلى هناك. أنا أعالج في المتوسط عشرة أشخاص كل يوم. لكن يوم الجمعة دائما ما يكون هو الأسوأ، فقد شهد يوم الجمعة الماضي نحو ثلاثين مصابا. وكان الرصيف الذي يجلس عليه ملطخا بالدماء. يختلف رد فعل الجميع هنا إزاء صوت رصاص القناصة. يغادر طوفان البشر مكان السوق، فيجري الناس بصورة غريزية إلى الاحتماء بحوائط المباني، كما لو كانت ستحميهم، بعض الشيء، لكن البعض يواصل سيره في وسط الطريق غير آبه، في إشارة إلى تحدٍّ قوي. الأفراد الذين يتم حملهم إلى سام في عيادته كانوا من بين أولئك الذين سعوا للاحتماء بالجدران ومن يسيرون في وسط الطريق على حد سواء. أسارع دائما إلى الركض عندما يبدأ إطلاق الرصاص. أسند ظهري إلى حائط وأقوم بتصوير هذا الصخب.. لكني كنت طوال الوقت أفكر بشأن فيديو كنت عرضته في حلقة تدريبية في مؤتمر أمن في ويلز، عن مصور أصابه الرصاص في يده التي كانت تحمل الكاميرا. أتمالك رباطة جأشي، ربما لدقيقة وربما لاثنتين، قبل أن أتسلل عبر فجوة في الحائط المجاور لي. وأتساءل كم عدد المرات التي يجب أن يطلق فيها عليك النار قبل أن تصبح أحد الضحايا. وقال لي دليلي إنهم يطلقون النار في بعض الأحيان لإرهاب الناس. وأحيانا يطلقون للقتل. وعيادة سام تقف شاهدا على ذلك. الطاقة المحمومة في بستان القصر مشحونة بالخوف، وقال لي أحد تجار السوق: «في البداية تحاشينا الذهاب إلى هناك، لكننا بدأنا في العودة مرة أخرى. ماذا غير ذلك يمكننا أن نفعله؟ يجب أن نعيش». سارة، الناشطة التي تدرس الأدب الإنجليزي، من بين عابري المعبر، التي تأتي أسبوعيا على مدار السنة لاستكمال دراستها في الجامعة الواقعة على الجانب الخاضع لسيطرة النظام. في كل مرة تتوجه فيها إلى هناك تدعو الله أن لا يوقفها أحد لاستجوابها عند نقطة التفتيش. تقول: «أنا لا أذهب إلى المحاضرات، أنا أدون ملاحظاتي فقط ثم أدرس بعد ذلك في المنزل». وفي فترة الامتحانات تعبر كل يوم تقريبا في تصميم على النجاح. وقالت: «عبرت في صباح أحد الأيام، ولدى عودتي وجدت خمس جثة لأشخاص قتلوا في المكان». وقالت إنها نجحت في كل الاختبارات، لكنها تشعر بخيبة أمل إزاء نتيجة آخر العام. وقالت: «كانت نتائجي أفضل العام الماضي». ونظرا لأن منطقة قتال حلب تبدو أشبه بحلقة الكعكة، يسيطر النظام على مناطق في المدينة محاطة بالكامل بدائرة تسيطر عليها المعارضة، تضطر الكثير من العائلات التي لا تزال تعيش في المنطقة الخاضعة لسيطرة النظام إلى الانتقال إلى المناطق التي يسيطر عليها الثوار لشراء الطعام. وقبل أسبوع واحد كان المعبر يخضع لسيطرة مجموعة من جنود مارقين يحاولون ابتزاز المال من الأشخاص اليائسين الذين يستخدمون المعبر. وآخر مرة حضرت فيها إلى بستان القصر حاولوا اعتقالي ومصادرة الكاميرا الخاصة بي، لكنني فررت مع مساعدي عندما فتح القناص النار. لكن الثوار ابتسموا لي هذه المرة وطلبوا مني التقاط الصور لهم مع أسلحتهم. وقال أحد المراهقين بعينين لامعتين وهو يرتدي الوشاح الفلسطيني حول عنقه: «أنا أعرفك، لقد شاهدتك في حلب من قبل. كيف حالك؟». لقد استولى لواء أحرار سوريا، أحد أكبر فصائل الجيش السوري الحر في المدينة، على المعبر. إنه تقدم بالنسبة للأفراد الذين يستخدمون المعبر، لكنها إشارة أيضا إلى مدى الإثارة التي أصبحت عليها السياسات المحلية، فقد حولت المدينة إلى إقطاعية. ففي الأسبوع الماضي كان بستان واقعا تحت سيطرة المجرمين، واليوم هو تحت سيطرة أحرار سوريا، لكن لا أحد يدري من سيسطر عليه الأسبوع القادم. واصطحبني الثوار لمقابلة أبو ياسين، وهو نائب رئيس قوة شرطة المحكمة الشرعية بالمدينة التي يسيطر عليها الثوار، الذي تم تعيينه في هذا المنصب في محاولة لإعادة النظام إلى معبر بستان القصر الذي يعاني من الفوضى. وفي أحد الزوايا التي يتقاطع خلالها الشارع الرئيس بطريق جانبي، أشار أبو ياسين إلى المباني التي يتمركز عليها القناصة، في مجمع سكني مملوك للدولة وأعلى مبنى سكني وفوق مئذنة. وقال أبو ياسين: «هناك اثنان وسبعون قناصا يصوبون أسلحتهم تجاهنا ويستهدفون المدنيين». وتحدث أبو ياسين عن آخر مبنى في مدينة حلب التي يسيطر عليها الثوار، وهو مبنى واسع ومغبر تدخله الشمس، ويمكن أن يمر به أي شخص شريطة أن لا يحمل أي شيء سوى الملابس التي يرتديها. وفرضت المحكمة الشرعية قيودا جديدة، فلا يمكن مرور بضائع مستوردة أو وقود أو أية مواد غذائية باستثناء ما يحمله الشخص لأسرته. قد يكون هذا منطقيا وفقا لقواعد الحرب، ولكنه يعد شيئا خانقا بالنسبة للمدنيين. ومع ذلك هناك بعض الأشخاص في مدينة حلب التي يسيطر عليها الثوار يريدون غلق المعبر تماما. ولم يعد الناس في مظاهرات الجمعة في المناطق التي يسيطر عليها الثوار يطالبون بالديمقراطية أو الحرية أو حقوق الإنسان، ولكنهم باتوا يطالبون بانفصال المدينة التي تعاني من التمزق بالفعل. وخارج مقر جماعة «جبهة النصرة» السلفية القوية في سوريا، كان هناك صبي في العاشرة من عمره يحمل لافتة تطالب بغلق المعبر لمنع مخبري النظام من الانتقال إلى الجانب الذي يسيطر عليه الثوار في المدينة، وهو ما يعني أنه إما لا يدرك وإما لا يهمه فشل سارة، وربما موت العائلات في الجانب الذي تسيطر عليه النظام بسبب الجوع. وعلى الرغم من أن معبر بستان القصر يتسم بالفوضى فإنه يعد في نفس الوقت شريان حياة، فهو آخر شريان يربط مدينة مقسمة بالخيار الوحيد للأشخاص الذين يستخدمونه. ويروي عدد من الأشخاص الواقفين حول المعبر، مثل سام في عيادته الميدانية وسارة بكتيبات محاضرتها والثوار الذين يلتقطون الصور وتجار السوق في مرمى القناصة، القصة الحقيقية للحرب في حلب.. أشخاص يحاولون العيش في ظل حرب لم تكن خيارهم من الأساس.