شهدنا في الأسبوع الفارط جلبة كبيرة في مواقع التواصل الاجتماعي حيال ما طرحته قناة ( إم بي سي)، وحملتها للمرأة العربية المسلمة “كوني حرة”، والتي انتهت ببيان من الشبكة المؤثرة والذائعة الصيت، فيه شبه اعتذار، مع تأكيد على “التزامها الدائم بدعم قضايا المرأة العربية النبيلة والمحقة كما الاستمرار في المطالبة بحقوقها العادلة”. الممانعة الاجتماعية الكبرى التي شهدناها تجاه الحملة، هي من صميم الروح المحافظة لهذا الوطن، وتبدت غيرة المجتمع على قيمه، ولكن بظني أنها ردة فعل وقتية، ولا تكفي لعلاج جذر المشكلة وسد الثغرة، وبودي أن أتجه لزاوية جديدة في هذا السجال، فسبق لي عبر عقد ونصف من السنوات طرحها في الملاحق الإسلامية التي أشرفت في صحف “البلاد” و”المدينة” و”عكاظ” حيال ضرورة وعينية عصرنة الخطاب الديني، خصوصا ما يمسّ المرأة في مجتمعنا اليوم. المطالبة تقول أمام هاته النوازل التي أُمطرنا بها، وأمام انفتاحنا على العالم الغربي كاملا، إن عبر وسائل “الميديا” التي تتفنن في اختراق أخص خصوصياتنا، وباتت هي من توجّه وتربّي أجيالنا، أو عبر احتكاك أبنائنا وبناتنا بالخارج، سواء عن طريق البعثات أو السفر؛ لا مناص أبدا من إعادة تجديد وعصرنة الخطاب الديني المحلي، ليتم استيعابه وتشرّبه من قبل أجيالنا الجديدة، كي يصمدوا أمام الشبهات الحادة التي يطرحها أصحاب الشهوات وكهنة المبادئ المنحرفة واللادينين والملاحدة، وهم يستقصدون أجيالنا بالخصوص. الخطاب الموجه للمرأة المسلمة من تلكم التراثيات التي كانت صالحة لأزمنة غابرة “خروج المرأة في الدنيا ثلاث مرات: تخرج من بطن أمها لبيت أبيها، ثم لبيت زوجها، ثم للقبر” لم يعد صالحا أبدا، في عصر بات فيه معظم بنات وحفيدات هؤلاء الدعاة والعلماء يعملون في وظائف خارج بيوتهن، فضلا عن بنات باقي شرائح المجتمع، وقس على ذلك تلكم الأعراف الاجتماعية السائدة حيال المرأة عندنا، والتي يخالف بعضها مبادئ الدين بشكل صريح. عتبت في حواراتي الإعلامية مع كثير من الدعاة عدم بذلهم الجهد المستحق في تصحيح كثير من العادات والأعراف القبلية الخاطئة، بما بذلوه في أمور حياتية أو شخصية يسيرة كإسبال الثوب واعفاء اللحية، على فضل ما عملوه، ولكن لا يقارن أبدا ببعض الظلم الاجتماعي الواقع على المرأة، أو حتى تلكم الآفات الاجتماعية المتعدية كالفساد والمال العام مثلا.. التاريخ يحدثنا بأنه إن لم يتحرك أصحاب المبادئ والقيم، لتطوير خطابهم وتكييفه مع العصر، ضمن الاطار العام للدين الذي يسع الاجتهادات؛ فإن الموجات المتتالية والمتسلحة بالشبهات ستقتلع الأكثرية، واسلامنا ليس كهنوتا جامدا والله الحمد، وإن كانت الكنيسة في القرون الوسطى، تصلّبت أمام المتغيرات والفكر الانساني والاكتشافات العلمية، فكان عقابها اجتثاثا لأسسها من قبل التنويريين الذين بثوا فكرهم وأشاعوه في طبقات المجتمع الأوربي وقتذاك؛ إلا أن ديننا الإسلامي مرن، ويتساوق مع التطوير والحداثة والعلم، وما طالبنا ونطالب به اليوم هو تقديم خطاب ديني يراعي العصر ومتغيراته ينطلق من الأسس الواسعة لإسلامنا العظيم. الصديق المفكر د.محمد السعيدي كتب قبل ست سنوات ورقة عميقة بعنوان: “نحو تأصيل فكري للممانعة المجتمعية”، وتحدث عن تأثير الأمم في بعضها، وكيف أن المفكرين يعدون الأمم التي لا تقبل التأثير الحضاري أمما منغلقة حضاريا غير قابلة للتطور , وذلك أن التطور لا يمكن أن يتم لأمة من الأمم دون أن تأخذ من الأمم الأخرى لأن الحضارة كما يقولون مشترك إنساني لا يمكن أن تبنيه أمة وحدها . د. السعيدي وإن اختلفت معه يسيرا في تلك الورقة –مقرا له بسعة الاطلاع والعمق الفكري ودقة العبارة لديه- قال: “المجتمع حين يكون متفاعلا مع الأصول المكونة لقيمه بشكلٍ صحيح فإنه سيكون تلقائياً أكثر تفاعلاً مع هذه الأصول في تصفية ما يرد عليه من قيم خارجة عنه, بل إنه سوف يمارس بطريقة تلقائية أيضا ما يشبه أن نسميه توطين القيم الواردة عليه بحيث تدخل في سياق هيئته الاجتماعية بشكل لا يُشير أبدً إلى جذورها التاريخية”. إن الوقوف أبدا –بما نلمسه ونشاهده- أمام القيم الوافدة، التي ندهم بها ليلا ونهارا، ويعتنقها أبناؤنا وبناتنا؛ لا شك أنه تصلّب وجمود، وأيضا التماهي معها وإن تضادت مع أسسنا وثوابتنا؛ لا شك أنه تمييع وتضييع، والصحيح مواءمتها ما أمكن مع قيمنا، دون أن ننتترس خلف “سد الذرائع”، بينما معظمها من المباحات التي يمكن امتطاؤها. نحن أمام مرحلة تاريخية فاصلة، والأرضية تحت أقدام الدعاة وطلبة العلم تهتز، والسماء غامت بهاته الشبهات المتتالية، والأيام دالت على صفاء أيامهم في الثمانينات والتسعينيات، والجمود والاكتفاء برفع العقائر أمام كل حملة، لا تكفي أبدا، وإن لم يبادروا بالتصحيح والانتقال لصياغة خطاب جديد يراعي العصر ومتغيراته؛ فستصاغ برؤية غيرهم، والزمن سيتجاوزهم كسيرورة تاريخية وسنة كونية، ولنا في مصر والشام مثالان. “كوني حرة” بصياغة شرعية عصرية، يتسابق فيه الدعاة والعلماء وطلبة العلم في تبيان حقوق المرأة هو ما نحتاجه، وليس الوقوف عند الشجب والانكار فقط. دكتور عبد العزيز قاسم المصريون