هل من العدل في معاملة الناس أن تسمح لنفسك بتغيير أديانهم وتحوير مذاهبهم، وتذهب بك حرية التعبير إلى أن تُعلن ذلك، وتدعو إليه، وتحض غيرك عليه، ثم يجدك هؤلاء الناس ترفض الاختلاف في بيئتك، وتتهم الداعي إليه مرة بالفساد والنفاق، وتارة بالبدعة والعمالة؟ في جمهورية أفلاطون يرد على لسان سقراط أحياناً كثيرة جملة "ليأخذْ بنا الجدلُ إلى حيث يريد"، هكذا كان سقراط يُعلّم طالبي المعرفة بين يديه، ويحثّهم على مواصلة الأسئلة حول الفكرة المطروحة والقضية المتناولة، لم يكن هدفه أن يُقنعهم بما ينتهي به الجدل، ويصل إليه معهم الحوار؛ فهدفه الأصلي أن يُدرّبهم على اختبار الأفكار ووزن الأقوال، حتى لا يقبلوا برأي ولا ينصاعوا لقول إلا بعد أن يقلّبوا حوله الأسئلة، ويختبروا صدقه بالجدل، ويمضوا جميعاً في امتحانه، ويجتمعوا على نخله، وكان المدهش أن الرجل يفتح لهم صدره، ويستقبل أسئلتهم ببشره، فلا يكبح أفكارهم، ولا ينزعج من خطرات عقولهم، فهو يُربّيهم على التفكير، وعلى حسن إدارته، وتلك غاية إنسانية ودينية، تدعونا اليوم إلى النظر فيما نحن عليه، وتحثنا على المراجعة لما ألفناه؛ لأننا ما زلنا نؤمن، كما كان سقراط يُؤمن، أن من الضرورات أن يتعلّم أبناؤنا التفكير، ويتربوا على حسن إدارته، ويُعنوا بآدابه وسياسته. لكل عصر قضاياه وهمومه، ولكل زمان مسائله ومفاهيمه، وإذا كان الناس في زمن سقراط يُعالجون مصطلحات العدل، ويطرحون أسئلتهم حول الفضيلة، ويحاولون جاهدين أن يصلوا إلى مفهوم صائب، وقول راجح؛ فنحن هذه الأيام نشاهد قضايا تعود إلى هذين المفهومين، وترجع إليهما، ومن ذلك أننا نجد في مجتمعاتنا أقواماً يتداعون إلى الدعوة إلى أديانهم، ويبذلون جهودهم فيها، ويسعون بكل جهد إلى إدخال الناس في مذاهبهم، وإدماجهم في تصوراتهم، وهم مع حريتهم في ذلك، وإقناع أنفسهم بحقهم فيه، وقيامهم بحرية التعبير عن كل هذا، لا يقبلون الاختلاف في بيئاتهم، ويُناهضون كل من يدعو إليه، ويرون مسائل جزئية، كقيادة المرأة للسيارة، وكشفها وجهها، والالتفات إلى مفكرين غربيين من غير بيئتهم الثقافية، جريمة تستحق التشهير، وإثماً يجوز لهم به أن يُضيقوا على صاحبه، ويطعنوا فيه بسببه، وتلك صورة عجيبة، تُصادم العدل، وتتنافى مع الفضيلة؛ إذ كيف ترى لنفسك الحق في أشكل الأمور عندك، وأصعبها في نظرك، وهو تغيير أديان البشر ومذاهبهم، ثم تمنع غيرك من الاختلاف معك في الجزئيات، وتحرمه من القول فيها بغير ما ورثت، وتذهب معه إلى نهايات لو سامك غيرك بها، لرأيت أنه ظلمك، واعتدى على حقك، وجار في معاملتك. هل من العدل في معاملة الناس أن تسمح لنفسك بتغيير أديانهم وتحوير مذاهبهم، وتذهب بك حرية التعبير إلى أن تُعلن ذلك، وتدعو إليه، وتحض غيرك عليه، ثم يجدك هؤلاء الناس ترفض الاختلاف في بيئتك، وتتهم الداعي إليه مرة بالفساد والنفاق، وتارة بالبدعة والعمالة؟ وهل من الفضيلة، والإسلام من مبادئه الفضيلة، أن يهون عليك زرع الاختلاف بين المجتمعات في أديانهم ومذاهبهم، وترى من حقك أن تنشر دينك فيها ومذهبك في أهلها، ثم ترفض اختلافاً أهون من ذلك، وأقل منه، وترى الداعين إليه مفرقين للجماعة، ومشتتين للشمل؟. كثيرون من المسلمين يُفكّرون في تغيير غيرهم، ويُخططون له، ويبذلون له الأموال، ويفرحون حين يدخل في دينهم أو مذهبهم فرد أو جماعة، ويُعلنون ذلك، وينشرونه بين الناس، كي يطلع غيرهم على ما يقومون به، ويسعون فيه، وإعلانهم له يكشف لنا عن الترحيب الاجتماعي، والفرح الثقافي الذي يدخل قلوب الناس حين يسمعون مثل هذه الأنباء، ويجدون مَنْ يتحدث عنها وفيها؛ فما يُعلنه الإنسان، ويحرص على إذاعته، ولا يتخفّى خلف أسماء مستعارة للحديث عنه، هو في الغالب همّ الأمة وأمل الجماعة، وما يقوم به الفرد فيه تحقيق لهموم تلك الأمة، وتنفيذ لما يحلم به أفرادها، وتتمناه جماعاتها. هذه الحالة التي نشاهدها ونسمع عنها وتأتينا أخبارها كل يوم تقريباً تطرح علينا أسئلة على شاكلة: مَنْ ذا الذي يهون عليه تغيير الناس، ويخف في عينه تبديل أديانهم ومذاهبهم، ويرى ذلك من مدائحه، ومحاسن عمله؟ أهذا الذي يسلك تلك السبيل مع الآخرين، ويراها من حقوقه معهم، ولا يُفكّر في ردة أفعالهم، مستريح للاختلاف في بيئته، وقابل له، وناظر إليه بعين الرضا أم رافض له، ومحرض عليه، ومُشهّر بأصحابه؟ تبديل الدين والمذهب كبير في نظر الناس، وعظيم عندهم، لا يقبلون مَنْ يقوم به، ولا يسكتون عنه، وهم يقومون بذلك، ومن أمانيهم لو كان البشر مثلهم في الدين، وأشباههم في المذهب، وتلك مصادمة كبيرة للعدل، ومخالفة عظيمة للفضيلة، ويزداد الأمر مخالفة لهما، ومعارضة لما فيهما، حين يكون هذا الإنسان رافضاً لأدنى أنواع الاختلاف في بيئته، ومجرّماً غيره حين يأتيه، هو يتسلح بحرية الفعل والتعبير، ويبخل على مُساكنه أن يكون حراً في تعبيره، لا في فعله وعمله، وتلك غاية الظلم ونهاية الجور.