ـ بدأت رحلتي مع الحياة قبل موت الأميرة الساحرة ديانا سبنسر بأشهر؛ يومها كانت النائحات العربيات المتخصصات في هذا الفن الباتع قليلات جداً، وبسرعة أصبحت السيدة الأولى في كل ربع من ربوع العرب، وأحدث صيحة جريئة في عالم النواح، ودُهش الجميع لصوتي المختلف وارتفاع سقفي. ـ مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها، تأكدت تماماً أنني أصبحت الرقم الأصعب في حفلات البكاء واللطم والفواجع، وسرعان ما دخلت عالم الحصرية من أوسع أبوابه حتى وصلت إلى أعماق تورا بورا وحارات بيشاور السرية، ومنطقة القبائل، ولم يكن ثمة من يجرؤ على النواح في أعماقها الخطرة سواي، وفي كل مرة كنت أزيد البهارات أكثر من اللازم وأنفخ في أحزان لا تستحق كي يبقى الوهج. ـ سقطت بغداد فشعرت بكامل الزهو والسلطنة؛ إنها عاصمة الرشيد، وهذا هو وقتي وزماني، ولا شك أن النواح على دجلة والفرات سيبلغ أقصاه، وبالفعل ناح الجميع معي على «واحدة ونص»، وأحدثت كثيراً من المشكلات بين الفرقاء داخل وخارج العراق، وذكرت كل عربي بعمالة وخيانة شقيقه العربي المتوقعة والحتمية؛ حتى أصبحوا مثل الضرائر، وأنا أنوح عليهم أجمعين بمنتهى السعادة. ـ على حين غرة هرول الناس إلى الشوارع فبعثوني شابة من جديد؛ خرجت من فرحتى بهم عارية ألطم حتى في الحارات الآمنة والمستقرة، وأنوح على القتلى والجرحى، وألعن الطواغيت، وأتصنع أن في هذا الشارع ميتاً، وأن في ذاك معتقلاً؛ لقد استعدت وهجي تماماً.. صحيح أن ثمة منافسين لكنني بقيت الأولى، وفي هذه المرة رُفعت صوري في كل مكان. ـ لكن بعد عامين حافلين سرعان ما شب الملاعين عن الطوق، ولم تعد مواهبي تشكل فارقاً؛ فجأة انتهت الأيام الحلوة، ولم يعد أحد يصدقني ويتفاعل معي إلا قلة من الناس، وها أنا أكتشف بعد هذا العمر أنني لم أكن إلا جزءاً صغيراً من مشروع أراه ينهار أمامي دون رحمة ولا شفقة؛ فهل سأبقى وحدي أنوح على اللبن المسكوب أم أعود إلى الطابور؟ لا أدري!!