أوافق على ما كتبه الأستاذ محمد أحمد الحساني في مقاله المعنون بـ(اختلاط الحابل بالنابل)، وهو يدور حول نوع من (العزاءات) ــ أبعدكم الله عنها ــ وفي ظني أن (العزاء) كأي مناسبة، يجب أن يكون له (بروتكول) أو تقليد معين يريح أهل المتوفى والمعزين على حد سواء، لهذا أحبذ وأجد أنه البروتكول الذي التزم به أغلب أهلنا بالحجاز وفي المدن تحديدا، أجد أنه تقليد موفق ومريح، حيث يجلس أهل المتوفى على مقاعد محددة لهم، ويقابلهم المعزون، فيما يتلى خلال ذلك القرآن الكريم، لينصت الجميع له لكي يعتبروا أولا، ثم ليقللوا من أحاديثهم الدنيوية عن المصالح المتبادلة، ولا تدار على المعزين أثناءها سوى القهوة، وكلما انتهى المقرئ من جزء قرأه، اتجهت مجموعة لتقدم واجب العزاء ثم تنصرف، وتتبعها في الجزء التالي مجموعة أخرى ــ وهكذا دواليك ــ، والمدة المحددة هي من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، وكان الله يحب المحسنين. أما أن تكون طريقة العزاء بمثل ما وصفها الأستاذ الحساني، حيث يختلط الجميع في صالة لا تعرف ميتها من حيها فذلك هو العذاب بعينه. كما أن هذه الطريقة العشوائية مربكة ومتعبة، فهي من الممكن أن تمتد إلى ساعة متأخرة من الليل، وكلما طالت الجلسة كثر التباسط والمزاح و(فلة الحجاج)، ولا أقول قلة الأدب. وسبق لي أن ذكرت أنني (طبيت ولا أحد سمى علي) في عزاء مثل الذي طب به الأستاذ الحساني، غير أن حظه أفضل من حظي بمراحل، حيث لم ينله سوى المزيد من معاناته بكثرة المصافحات والقبلات. أما ما نالني فهي الفجيعة التي ما بعدها فجيعة، لأنني ما أن دخلت حتى صدمتني الأصوات العالية المختلطة، والناس كلهم وقوف يتدافعون ويدورون في الصالة، واعتقدت لأول وهلة أن هناك مضاربة، فأول ما خطر على بالي الهريبة، غير أن عيني لمحت في وسط المجموعة الرجل الذي أتيت لتعزيته بوفاة زوجته، وراعني عندما شاهدته حسير الرأس، مقطع أزارير الثوب، حافي القدمين، يرشح بالعرق من شدة (المعافرة) مع من يحاولون أن يهدئوا عليه، وهو بالمناسبة رجل ضخم الجثة ومتعافٍ، وكان صوت بكائه الجهوري يعلو على كل الأصوات، الواقع أنه كان يزمجر ولم يكن ينوح. ورضيت من الغنيمة أو العزاء بالإياب. الحقيقة أنني لم ولن أشاهد زوجا يحزن على وفاة زوجته بهذا القدر من الحزن المتفجر الصارخ، ولا أدري ماذا كانت تفعل له زوجته رحمها الله، حتى أوصلته إلى هذا المستوى من العاطفة الجياشة التي تشبه (التسونامي)، وتخيلت لو أن كل الرجال الذين تتوفى زوجاتهم يكونون على شاكلة ذلك الرجل الأرمل المنكوب، بعدها لأدري كيف يكون حال البلد؟!. ويا له من عزاء.