النسخة: الورقية - دولي ليس حدثاً لافتاً أن تظهر «كتائب البعث» على نحو واسع في المناطق المؤيدة مع ذكرى تأسيسه الأخيرة. فهي كتائب يعلم الجميع هامشية دورها، وتدلل هيئة أفرادها على غياب الجاهزية القتالية وغياب التجانس العمري الملحوظَيْن لدى الميليشيات الأخرى. إنزال «كتائب البعث» بثيابها المرقطة تزامن هذه السنة مع مسيرات للمؤيدين في ذكرى التأسيس، وكأن النظام يتراجع عن قراره السابق الذي ثُبّت دستورياً بإلغاء الدور القيادي لـ «البعث». ومع أن إنشاء الكتائب والزج بها في القتال يبدوان كاريكاتوريين اليوم، إلا أن حاجة النظام إليها لا تتوقف على نقصٍ في موارده البشرية، هي أيضاً حاجته إلى الغطاء الأيديولوجي القديم، والذي لم يستطع اقتراح بديل له على رغم ضرورته القصوى للتغطية على المستوى العائلي والطائفي، وعلى التحالفات الإقليمية العائدة لهما قبل أي اعتبار آخر. محاولة النظام الأخيرة لإحياء «البعث» هي إحياء لما فعله الأسد الأب في الثمانينات من القرن العشرين إبان المواجهة مع «الإخوان المسلمين»، حين ركّز على الحزب ومنظماته «الشعبية»، فعقدت تلك المنظمات مؤتمرات كبرى في حضوره معلنة ولاءها مع القدرة على إطلاق مسيرات ضخمة من مؤيديه رفعته على الأكتاف، بل رفعت أيضاً سيارته المصفحة إلى الأعلى. لكن الأب بعد عقد من انقضاء المواجهة أكمل تهميش الحزب، وصار بوسعه القول «أنا الحزب»، لا على النحو الذي أطلقه ميشيل عفلق وإنما على سبيل الاستبدال التام. لفهم تجربة النظام مع «البعث» قد يكون مفيداً الاستئناس بمفردات علم النفس، لأن رحلة اصطناع النظام على ما هو عليه اليوم مرت بمراحل يجدر التوقف عندها بدل أخذها جملة. في العقد الأول من تجربة يمكننا الحديث عن تجربة توتاليتارية قيد التكون، ذلك الجيل الأول من الانقلابيين حاول ترسيخ سلطة «البعث» بحماسة شديدة، وكان مطلوباً أن تصبح أيديولوجيا الحزب بمثابة «أنا عليا» للمجتمع السوري ككل؛ لم تكن النوازع الفردية للاستئثار بالحكم قد بزغت على نحو جلي حينها. مع انقلاب الأسد على زملائه بدأت مرحلة جديدة كان من أولى إشاراتها عدم تعيينه أيّاً من شركائه الكبار في مناصب حساسة. ففي البداية عيّن نقيب المعلمين آنذاك رئيساً موقتاً للجمهورية، ثم عيّن رئيس اتحاد الطلاب «الذي لم يكن أدى الخدمة الإلزامية بعد» وزيراً للدفاع. تلك كانت إشارات على أن القادم الجديد لن يقبل بمشاركة أحد في السلطة. بعد نحو عامين على استيلائه على السلطة، أطلق عليه مؤتمر «البعث» الذي عقد خصيصاً لتجريم الرفاق السابقين لقب «قائد المسيرة»، تلك كانت أول خطوة لترسيخه رفيقاً أعلى، ترافق معها بدء استخدام لقب «الأب القائد» على رغم سنّه غير المتقدم آنذاك. بهذا المعنى، كان الأسد الأب يسعى إلى استغراق «الأنا العليا» المتمثلة في «البعث» بشخصه، وكان ينقل منظومة الحزب عبر شخصه من مرحلة متدنية من التوتاليتارية إلى البطريركية، حيث تتجسد في الأخيرة منظومة الأنا العليا في شخص الأب. عملية التحول لم يكن لها أن تسير في شكل حثيث لولا التوسع الأفقي للحزب ومنظماته، بدءاً من منظمة «طلائع البعث» مع مستهل المرحلة الدراسية للأطفال، وأصبح لكل منظمة نشيدها الرسمي الذي يستلهم فكر «البعث»، ومن ثم باقة من الأناشيد والأهازيج التي تتمحور حول شخص القائد. على سبيل المثال، شاعر «البعث» آنذاك سليمان العيسى كتب نشيد الطلائع ومنه: «نضيء كالصباح... ونحمل السلاح... للوحدة التي سقاها أهلنا بالدم... نمشي إليها ثورة ووردة من دم». سيكون من الإنصاف القول إن الأسد الأب نجح نجاحاً باهظ الثمن للسوريين، إذ أصبحت أفكار «البعث» أناهم العليا، وأصبح هو تجسيداً مطلقاً لها. ففي العقدين الأخيرين من حكمه، سلمت الغالبية الساحقة منهم باستحالة مواجهته. لكن الأهم هي المنظومة المتكاملة التي كانت تغلغلت في النفوس، وضيّقت الفوارق المفهومية بين النظام وعامة السوريين. إن أجيالاً تربت على رؤية موحدة تجاه قضايا العروبة والصراع العربي- الإسرائيلي والموقف من الغرب صار يصعب عليها الفكاك من أناها العليا، ومن سطوة الأب التي سحقت «الأنا» والـ «هو» معاً بالتعبير الفرويدي. شيوع اللعنات الموجهة الى الأسد الأب مع انطلاق الثورة واستمرارها قد يرجع إلى تذكير السوريين أنفسهم بمجمل المكابدة التي تجشموها تحت سطوته كبطريرك، قبل ذلك ربما يجب استرجاع الآمال التي علّقوها على الأسد الابن ليقوم بانقلاب مشابه لما يتطلعون إليه اليوم. لقد خذل «الرئيس الشاب» كثيرين لأنه لم يتمثل موقع الابن الفرويدي فعلاً، ولأنه سرعان ما عاد ليتمثّل موقع الأب الذي بدا فضفاضاً عليه. كان من الصعب جداً على الرئيس الجديد أن يصبح «رباً» على النحو الذي يطالب به الشبيحة معتقليهم بالنطق به، على الأقل هذا ليس بسهولة الترفيع مباشرة من رتبة عقيد إلى فريق، أو القفز مباشرة إلى أمانة الحزب مع وراثة لقب قائد المسيرة. وكما هو معلوم، لا تدلّل اللعنات مطلقاً على التخلص من اللعنة الأصل التي يجسدها شخص الملعون، وهنا قد يُظهر بعض اللعنات ميلاً الى عملية معاكسة لتلك التي سار بها الأسد الأب، وهو الميل إلى الفصل بينه وبين الأنا العليا التي سطا عليها، أي إبقاء الأخيرة من دونه. ذلك يتضح بخاصة في الإحراج الذي عاناه مجتمع الثورة في تقديم رؤية جديدة إلى مجمل القضايا المزمنة في وجدانه، مثل قضايا العروبة والصراع مع إسرائيل والعلاقة مع الغرب. بل لعلــنا لا نجافي الواقع إذا قلنا إن جــــزءاً كبيراً من العدة اللغوية للناطقين باسم الثورة لا يزال يرزح تحت الشبكة اللغـــوية التي أرساها «البعث»، وإذا كانــــت هذه الشبكة تأسست على ما يشــــبه العصاب الجماعي، أي من حيث هيـــمنة السلطة اللغوية للأب «الأنا العليا» على شخص المتكلم، فإن مما ينبغي تجنب الوقوع فيه هو الانسلاخ عــــن الأب أو تعطيله مع التأتأة في اقتراح شبـــكة لغوية جديدة؛ الاحتمال الأخير يجــــعل الأمر أقرب إلى «الذهان» كما يشخّصه عالم النفس الشهير جاك لاكان.