×
محافظة المنطقة الشرقية

صاحبة فيديو المرأة التي تجر الرجل كالكلب : المشهد تمثيلي

صورة الخبر

النسخة: الورقية - دولي تنطوي ظاهرة الجهاد الإسلامي على مركبين نقيضين: أولهما أصيل يشتمل على شجاعة نفسية عالية، وإيمان روحي عميق، ونزوع دائم إلى الفداء. وثانيهما طارئ يشتمل على تطرف فكري وعنف سياسي وإرهاب بدني. غير أن المركبين معاً ينهضان على جذر مشترك، أو مُسلَّمة أساسية هي أن التضحية بالنفس لا تزال تمثل الوسيلة المثلي للتأثير في العالم، كما كان الأمر على زمن المسلمين الأولين، فطالما امتلك الإنسان فضيلة بذل النفس تحقق له الهدف الذي يريد، وباتت قدرته على التغيير لا محدودة، سواء لواقعه أو للعالم من حوله. وفي الحقيقة لا تعدو هذه المُسلَّمة أن تكون تصوراً اختزالياً يدفع بالجهاد من موقعه في السياق التاريخي كـ «مفهوم» ارتبط ببنية حضارية معينة، إلى واقعه الراهن كـ «أقنوم». والأقنوم مفهوم استقر تصديقه الى درجة الإيمان به وربما تقديسه، وتوقفت كل محاولات مناقشته أو مساءلته، إذ يتمتع غالباً بإيمان ساذج أو يقين مطلق، ينبع من جذر أصلي، ويستند إلى تجربة واقعية، غالباً ما تكون لأسلاف تاريخيين، تمت بالفعل ولو في الماضي البعيد. لا يبعد الجهاد على هذا النحو، أي كأقنوم أبدي وليس كمفهوم تاريخي، عن أفكار اختزالية أخرى (دنيوية) لها طابع خلاصي تنشد الفكاك من أسر واقع بائس مهيمن على جماعة بشرية، كما هو الأمر في الفكر الطوباوي مثلاً، ذلك الذي ينشد عالماً مثالياً يمكن استدعاؤه في كل وقت ولكن من دون قدرة على تحقيقه في أي وقت. ومن ثم يمكن اعتبار الظاهرة الجهادية الراهنة «طوبى جديدة»، لها المنطق المثالي نفسه الذي يتوفر للفكر الطوباوي، ولها التصور الإختزالي نفسه الذي يحكم الواقع أو يتم من خلاله تفسير هذا الواقع، ولكنهما، أي الطوبى الدينية والطوبى الوضعية، يختلفان فقط في المجال الزمني الذي يعملان فيه، أو يدوران في فلكه، ودرجة الوثوقية أو الشعور باليقين اللذين يتمتعان به: فالطوبى الدنيوية (التقليدية) غالباً ما تتسم بنزعة غائمة عن عالم مثالي غير محدد في الزمان ولا في المكان، فثمة أمل فقط في أن يوجد هذا العالم في لحظة تاريخية ما، إنه حلم البشرية الذي لا يتوقف أبداً، والوعد الإنساني الذي لا يتحقق قط. أما الطوبى الدينية، كما تتمثل في الظاهرة الجهادية (لا نقول هنا مفهوم الجهاد الذي يحتل موقعه الإيجابي في تاريخ الإسلام الحضاري) فتتسم بنوع من الحنين إلى عالم مثالي ولكنه ينتمي إلى مكان معروف، وزمن مثالي يتسم بالقدسية الى درجة يعلو بها على المساءلة، ولم لا وهو الماضي التليد الذي يتجاوز موقعه في الزمن كي يحلق دوماً فوق كل العصور والأزمنة. وربما لهذا كانت الظاهرة الجهادية من أخطر أنواع الطوبى، إذ تحمل كل عيوب الطوبى الوضعية من مثالية تبسيطية واختزالية، ولكنها تزيد إليها الوثوقية الكاملة (الساذجة) الناجمة عن تجربتها التاريخية الحقيقية، وإصرارها على الاستعادة الساذجة لها، وهو ما يجعلها أسيرة لاغتراب مزدوج ينتج تطرفاً وإرهاباً ويمارس عنفاً عدمياً يخرج عن إطار المعقولية، كنتيجة لإهدار السياقات التاريخية. هذه الوثوقية الساذجة، اللاتاريخية حقيقة، هي ما يقع فيها غالباً تيار «الإسلام السياسي» من دون تصنيف أو تمييز جرى عليه العُرف بين تيار معتدل، وآخر متشدد، وثالث جهادي، وليس هذا تجاهلاً لوجود هذا التباين واقعياً إذا ما ألقينا على الظاهرة نظرة استاتيكية، أي أفقية ومسطحة، إذ نطالع فعلاً أنماط تفكير وسلوك سياسي جد مختلفة. فإذا ما ألقينا نظرة ديناميكية، أي رأسية وتاريخية، أدركنا كيف أن تلك الفروق مرحلية فقط، وأن تلك الأنماط ليست سوى الظاهرة نفسها ولكن في مراحل مختلفة من تطورها التاريخي. فالظاهرة برمتها تنهض على منطق واحد في النهاية وهو أن ثمة إمكانية لأن يشرف المقدس (مباشرة)، أي بنفسه على تفاصيل حركة «الدنيوي»، فلا يكتفي بتقديم التوجيهات وإلهام الغايات، وأن يبقى هذا المقدس نفسه مستقلاً عن الدنيوي، فلا يصير «مدنساً. غير أن صيرورة التاريخ لم تقل بذلك قط، وأظنها لن تفعل أبداً، فما إن يهبط المقدس على سطح الدنيوي وتبدأ تروس الواقع في إدارة عجلة الزمن، إلا وتتولد الاحتكاكات التي غالباً ما تكون سلسة زلقة في البدء، هينة محتملة في المنتصف، عاصفة رعديدة في المنتهى، حيث تقع الصدامات وتتوالى الانفجارات، بغض النظر عن إصرار أرباب الظاهرة على قدسيتها أو إنكارهم لدنيويتها. فالقدسية ليست ممكنة في عالم الشهادة نفسه، إلا إذا استمرت محلقة فوق الأفق، وصار الشعور بها أقرب إلى شعور راكب الطائرة بحركتها الناعمة الملساء في الفضاء الأعلى، منه إلى شعور راكب السيارة على هذه الأرض، حيث وعورة الطريق، الناجمة من خشونة سطح التربة الصلدة، وحركة كثبان الرمل الرجراجة. وهكذا لا يكون عجيباً أن تقود أكثر الأفكار نبلاً وطهارة، في لحظة معينة، إلى أقبح الأفعال وأكثرها دناءة في لحظة أخرى تالية. فباسم الله، نور السموات والأرض، يتم قتل الأطفال بلا معنى أو ذنب وهم أحباب الله، ويجري التنكيل بالناس وهم رعايا الله، أو حتى التمثيل بالجنود القائمين على الحدود وهم المجاهدون حقاً في سبيل الله، ولكن بشروط التاريخ. والأعجب من ذلك أن يقع ذلك من شخص يدعي أنه أكثر إسلاماً من العوام، وأكثر حرصاً على طاعة الله. والكارثة أنه قد يكون صادقاً حقاً في ما يعتقد عندما استبطن اعتقاده هذا، غير أن المسافة الزمنية الفاصلة بين انبثاق الفكرة في ضميره وتحركها نحو ذراعيه، عبر قنوات إرادته وتربيته وتثقيفه، قد امتلأت بشتى أنواع الآفات، وكل أشكال الدنس من كهانة بادية لدى أمير، ومصالح دنيا تحولت إلى شر مستطير، ومصاعب واقع وآلام حياة ورغبات بشر وأهواء حكام تصوغ شبكة معقدة تتوه فيها الحقيقة، وتنطمس الروح، ويتحول معها الحب المفترض أنه من روح الله، إلى الحقد الذي هو جسد الشيطان، حيث تتصاعد المواقف وتتطرف الأفكار وصولاً إلى لحظات الانفجار.     * كاتب مصري