تحلُّ بالأمَّة الحوادث والبلايا، وتُصاب بالكوارث والرَّزايا، التي تشغلها عن ثوابتها الشرعيَّة وقضاياها الأصيلة، غيرَ أنَّ حديثَنا اليومَ عن مَوسمٍ عظيم، ومنهلٍ عذب كريم، يَتكرَّر كلَّ يوم خمس مرَّات، وكثيرٌ من الناس في غفلة عن تحقيق آثاره، والعناية بحِكَمه وأحكامه، والتنويه بمكانتِه وأسراره. يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن هذا المنهل: ((أرأيتُم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كلَّ يوم خمسَ مرَّات؛ هلْ يبقى من دَرنِه شيءٌ؟))، قالوا: لا يبقى مِن درنه شيء، قال: ((فذلك مثلُ الصلوات الخمس يمحو اللَّه بهنَّ الخطايا))؛ متفقٌ عليه.إنَّ الصلاة من أوائل ما فُرِض على نبيِّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الأحكام، حيثُ فُرضت في أشرف مقام، وأرفع مكان، فكلُّ الفرائض أنزلها الله - تعالى - على رسوله إلاَّ الصلاة، فإنَّه - سبحانه - أصعد إليها رسولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأكرمه وأعطاه من الخير، حتَّى رضي، ثم فَرَض عليه وعلى أمَّته الصلواتِ الخمسَ، فهي خمسُ صلوات باعتبار التكليف والعمل؛ لكنَّها خمسون في الأجر والثواب، والحسنة بعشر أمثالها.لقد أكثر القرآنُ من ذِكْر الصَّلاة، فهي مِن أكثر الفرائض ذِكْرًا في القرآن، وإذا ذُكرت مع سائر الفرائض قُدِّمت عليها؛ لِعِظَمِ شأنها، وللدلالة على أنَّ الله لا يَقبل مِن تاركها صومًا ولا حجًّا، ولا صدقةً ولا جهادًا، ولا أمرًا ولا نهيًا، فهل تجدون - أيُّها المسلمون - عبادةً حَظِيت بمنزلةٍ فوق الصلاة؟ وهل يجد المُفرِّطون والمتهاونون عُذرًا بعد هذا البلاغ والبيان لقدرها ومكانتها؟!الصلاةُ رُكن الدِّين وعمودُه، فلا دِينَ لِمَن لا صلاةَ له، ولا حظَّ في الإسلام لِمَن ترك الصلاة، وليس بين الرَّجل والكفر والشِّرك إلاَّ ترْكُ الصلاة، ومَن تَرَك صلاةً مكتوبة متعمِّدًا برئت منه ذِمَّة الله، ولقد كان أصحاب محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يَروْنَ شيئًا من الأعمال تَرْكُه كفرٌ غير الصلاة، وكان ابن الخطَّاب - رضي الله عنه - يكتب إلى الآفاق قائلاً: «إنَّ أهمَّ أموركم عندي الصلاة، فمَن حفظها حفظَ دِينَه، ومَن ضيَّعها فهو لِمَا سواها أضيع، ولا حظَّ في الإسلام لِمَن ترك الصلاة، فهي أوَّل فروض الإسلام، وآخر ما يُفقد مِن الدِّين، هي أوَّل الإسلام وآخره، فإذا ذهب أوَّله وآخره، فقد ذهب جميعُه». اهـ.فريضةُ الصَّلاة لم يُرخَّص في ترْكها لا في مرضٍ ولا في سفر؛ بل إنَّها لا تسقط حتَّى في أحلك الظروف وأشدِّ المواقف، في حالات الفزع والخوف والقتال؛ حيث قال - سبحانه -: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ «البقرة: 238 - 239»، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطعْ فقاعدًا، فإن لم تستطعْ فعلى جَنبٍ))؛ رواه البخاري. نَحْنُ الَّذِينَ إِذَا دُعُوا لِصَلاَتِهِمْ وَالْحَرْبُ تَسْقِي الأَرْضَ جَامًا أَحْمَرَاجَعَلُوا الْوُجُوهَ إِلَى الْحِجَازِ فَكَبَّرُوا فِي مِسْمَعِ الرُّوحِ الأَمِينِ فَكَبَّرَا لقد ضَرب أصحابُ محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - والسلفُ الصالح أروعَ الأمثلة والنماذج في المحافظة على الصَّلاة وأدائها؛ كما أمر الله - تعالى - ورسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فها هو ابن الخطَّاب - رضي الله عنه - يقوم مِن اللَّيل، ثم يوقظ أهلَه ويقول لهم: الصَّلاةَ الصَّلاة، ثم يتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى «طه: 132»، بل إنَّه - رضي الله عنه - عندَما طَعَنه أبو لؤلؤة المجوسي وأُغمِيَ عليه، أراد الصحابةُ أن يوقظوه، فقال أحدهم: أيْقظوه بالصَّلاة، فإنَّكم لن توقظوه بشيءٍ إلاَّ الصَّلاة، فقالوا: الصَّلاةَ الصَّلاة يا أمير المؤمنين، فإذا به يستيقظ ويقول: الصَّلاة الصَّلاة، لا حظَّ في الإسلام لِمَن ترك الصلاة.وهذا أحدُ السَّلف يقال له: الرَّبيع بن خثيم، يُهادَى به بين رَجلين يحملانِه إلى المسجد، فقيل له: يا أبا يزيدَ، لقد رُخِّص لك، لو صليتَ في بيتك! فقال: إنَّه كما تقولون، ولكنِّي سمعته ينادي: (حي على الفلاح)، فمَن سمعه منكم ينادي: (حي على الفلاح)، فليجبْه ولو زحفًا، ولو حبوًا، إنَّها الصَّلاة؛ حُكم الفصلِ بين الكفَّار والمسلمين، وهي أوَّل ما يحاسب عنه العبد يومَ القيامة.إنَّ حالنا مع الصَّلاة اليوم حالٌ يَندَى له الجبين، حيث خفَّ ميزانها لَدَيْنا، وصار التخلُّف عنها أمرًا هيِّنًا لدى بعضنا، فهناك من البيوت مَن لا يشهد أهلُها الصلاة، والذين يشهدونها لا ينكرون على المتخلِّفين، وقد يكونون من أولادهم الذين كُلِّفوا بأمرهم بها، وضرْبهم عليها، وفئامٌ أخرى من جيران المساجد لا تراهم في المساجد ولا يدخلون للصَّلاة فيها، وقد يَشهدون بعضَ الصلوات ويتخلَّفون عن بعضها الآخر.