"فيه ناس بتلعب كورة في الشارع وناس بتمشي تغنّي تاخد صُورة في الشارع.." كلمات تُلقى بنبرة حَزينة ومُنهكة من أحمد زكي، يَعقُبها كادر لقطاع من السكك الحديدية يمر ببضعة بيوت مَنسية على الجانب الآخر، لحظات ويظهر (فارس) يجري على شَريط القِطار، يقتحم الفراغ بخطوات مُثقلة ويقطع صمت المشهد بأصوات أنفاس متتابعة تُلتقط بصعوبة تتلاءم وهيئة عادل إمام التي كانت لا تزال ثلاثينية رغم تجاوزه الثالثة والأربعين من عمره. هكذا افتتح محمد خان فيلمه "الحرّيف" محمد خان، الباكستاني الأب الذي نشأ في حي السكاكيني فاختار أن يكونَ مِصرياً. ربما تكون طفولته التي قضاها بجوار دار سينما مكشوفة يتابعها من شرفة منزله في مصر القديمة هي التي دفعته فيما بعد إلى ترك دراسة الهندسة والانتقال للدراسة في معهد السينما ليصبح أحد أهم رواد السينما الإنسانية وسينما الواقع منذ بدايتها في نهاية السبعينيات. لم يكن مُخرجاً فذاً فحسب بل كان إنساناً مكنّته تجربته الحياتية ومخيلته الخصبة من المشاركة في كتابة سبعَ عشرَ فيلماً من أصل أحد وثلاثين قام بإخراجها خلال مسيرته، وفي كل أفلامه تأتي الكادرات دوماً دافئة وأقرب ما يكون للحياة الحقيقية التي تختبرها بنفسك يومياً. إن كنت من منتسبي الطبقة المتوسطة في مصر سترى كل شيء في أفلامه مألوفاً، ستشعر وكأنه أتى ليصور الفيلم في بيتك أو على الأقل ستذكرك إحدى شخصياته بواحد ممن تعرفهم في الحقيقة. قد يكون (شكري) في موعد على العشاء، (مُنى) في زوجة رجل مهم، (يحيى) في شقة مصر الجديدة، (هيام) في فتاة المصنع، أو (فارس).. فارس الحرّيف هذه المرة يطل عليك خان بفيلم كل ما فيه استثنائي، بدءاً من أداءٍ مُتقن لعادل إمام في واحد من أنضج وأصعب أدواره مروراً بنص مبني على قصة حقيقية عن خيبات الأمل والفرص الضائعة في مصر إبّان سنوات الانفتاح الأولى، وانتهاءً بموسيقى تصويرية فريدة من هاني شنودة أتت ملائمة لروح الفيلم وكأنها تنتمي لهُ. في فيلم الحرّيف تجد (فارس) يقطع الطريق سيراً إلى عمله بمصنع الأحذية، في مشهدٍ ثان تجده يفاوض (رزق الإسكندراني) متعهد الرهانات على ما سيتلقاه مقابل لعبه للمباراة ومقابل كل هدف يحرزه قبل أن ينزل لأرض الملعب متصدراً المشهد، وهو يعطي التعليمات لباقي لاعبي فريقه قبل البدء، وفي مشهدٍ آخر تجده يسترضي زوجته السابقة أو يغازل زميلته في العمل رغم عدم ارتياحه للأمر، أو قد تجده يرد على طلب من ابنه الصغير بالذهاب لمباراة الأهلي قائلاً: "تتفرج على أبوك ولا تتفرج ع الأهلي". إذاً ما هو الأمر غير المعتاد هذه المرة؟.. ما الذي يميز (فارس) عن معظم أبطال الأفلام المألوفين لدينا؟ الإجابة ببساطة في أن البطل هذه المرة ليس مثالياً، البطل هذه المرة أقرب ما يكون منك ومن أخطائك وأبعد ما يكون عن المثالية، اعتدى على مدربه فتم فصله من نادي الترسانة ولكنه لم يتوقف عن ممارسة كرة القدم واتجه للعب في مباريات الشوارع والساحات الشعبية فذاع صيته وعُرف باسم "فارس الحرّيف" وهتف له الجمهور بحماس صادق في كل مرة نزل فيها إلى أرض الملعب، ضرب زوجته مراراً فرفعت عليه قضية وطُلِقت منه وأخذت ابنهما ليعيش معها، لكنه لم يتوقف عن استمالتها، ولا توقف ابنه عن الهوس بكرة القدم مثل أبيه مهما عنّفته أمه أو نهته عن اللعب في الشارع. نحنُ هنا بصدد التحدث عن ثقافة الفرصة الثانية، أو الثالثة ربما، نتحدث عن ذلك الشخص الذي قد يُفسد الأمور مرات ومرات، ولكنه لا ييأس أبداً من محاولة إصلاح ما أفسده هو أو حتى ما أفسدته الظروف رغماً عنه. الشخص غير العابئ بما سيحدث غداً، يسكن على سطح إحدى العمارات في غرفة صغيرة تطل على القاهرة من مشهد متسع ويجاورها على السطح لافتة إعلانية أضخم من الغرفة نفسها، يأخذ ثلاثين جنيهاً مقابل اشتراكه في مباراة فينفقها في عشاء بعد المباراة، خمسين جنيهاً أخرى يتلقاها كدفعة مسبقة عن مباراة في بورسعيد فيضع نصفها في جيب الكابتن (مورو) لشعوره أنه يمر بضائقة مالية، يتعمد الخسارة في مباراة بورسعيد مقابل رشوة من راعي الفريق المنافس، وبعد المباراة يحاصره مأجورون جاءوا لأخذ النقود فيلقي بها على الأرض أمامهم قبل حتى أن يطلبوها أو يفتشوه بحثاً عنها.. في كل مشاهد الفيلم تجده مرتدياً "الكوتشي الباتا"، وهو الحذاء الاقتصادي الأشهر لكرة القدم في شوارع مصر منذ سنوات. يخرج من قسم الشرطة مع "عبد الله" جاره في السكن بعد قضائهما عدة ليالٍ فيه، يطلب منهما أحد المارة مساعدته في دفع السيارة المُعطلة فيساعدانه، يضحك عبد الله وهو يدفع السيارة ثم يتوقف ويبكي، يرجع فارس إليه، ويضع يديه على كتفه مواسياً ويجذبه ليسيرا معاً حتى يختفيا من الكادر في واحد من أعمق وأنجح المشاهد السينمائية المعبرة عن التشتت والحاجة، كان فارس يجتهد في مساعدة غيره في حين أنه كان في أمس الحاجة إلى المساعدة. في نهاية المطاف يغير الحرّيف مساره ويعمل مع صديق قديم في أحد مجالات الثراء السريع، ينجح أخيراً في أن يستميل زوجته ويقنعها بالعودة إليه، تتبدل أحواله، ولكن شغفه لا ينطفئ، يتوجه مرة أخرى لميدان عبد المنعم رياض حيث تقام مباراة اليوم، يقابل رزق بعد غياب فيبادره بالسؤال عمن سيراهن فهناك حريف جديد الآن صعد نجمه بعد ابتعاد فارس، فيجيب ابنه الصغير "هو حرّيف واحد يا رزق". يدخل الحرّيف مرة أخرى من بين الجماهير ويتحدث لرزق بينما يتابع المباراة، لآخر مشاهد الفيلم كان يسير وراء شغفه رغم أنه لم يحقق له شيئاً يذكر، ولكن هذا الاستنتاج يمكن أن يكون صائباً بمقاييس المجتمع لا بمقاييسه هو، مقاييسه التي تدفعه لأن يضع رهانه على الخاسر بل ويخوض معركته الأخيرة في صفه، لا لشيء إلا لأنه يعرف قيمة أن يراهن أحدهم عليك و أنت في أسوأ حالاتك، أن يؤمن أحدهم بك عندما في وقت قد لا تكون أنت حتى مؤمناً بنفسك. -ما تستنى لما يخلص الماتش وتلعب على نضافة يا فارس ليه هو كام كام؟ -أربعة صفر. لمين؟ -لمختار طبعاً. .. أنا هلعب مع الخسران يا رزق. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.