مع أن رحلة الوصول إلى مونبلييه، ثم سيت في فرنسا من جازان، لم تكن بالقصيرة، إذ استغرقت الرحلة يوماً ونصف اليوم ما بين مطار وآخر، إلا أن الوصول إلى تلك المدينة الجميلة واكتشاف أن كل من وما بها محتف بالشعر والشعراء المقبلين للمشاركة في مهرجانها. الوصول إلى هذه المدينة ينسيك كل تعب الرحلة. ما إن تضع أمتعتك في مقر إقامتك وتتجه إلى مقر إدارة المهرجان بـ «حي الصيادين» حتى تباغتك تلك الوجوه الباسمة والمحبة والمحتفية بالشعراء المقبلين، وترى لوحات قماشية بين شرفات منازل الحي الذي يقع فيه مكتب إدارة المهرجان، يُهيأ لك من بعيد أنها لوحات ترحيبية، وتكون المفاجأة الأكثر سروراً أنها عبارات مستلة من نصوص المشاركين، فلكل شاعر وشاعرة عبارة مختارة مكتوبة بلغة الشاعر الأم، مع ترجمة لها بالفرنسية. ما أجملها من مصادفات حين كان الصديق علي العامري أول الأصدقاء الذين التقيتهم، إذ كان مرافقي على الطائرة الذاهبة بنا من باريس إلى مونبلييه. قبل أن تصافح وجوهنا بقية الأصدقاء العرب في الاستراحة التي تجمع الجميع قبالة مكتب إدارة المهرجان، كان من أكثر الأصدقاء ترحاباً وحضوراً المترجم الجميل من أصل لبناني أنطوان جوكي. وفي أول غداء جماعي كنا تعارفنا تقريباً مع بقية الشعراء والشاعرات العرب، وبدأنا التعرف إلى عدد من الشعراء من بلدان مختلفة. شخصياً، لم أُعر ذلك الاهتمام لتعليمات تجربة حفلة الافتتاح التي كانت تذاع بأربع لغات للحفلة التي ستكون في الحديقة العامة، والتي سيلقي فيها أكثر من 40 شاعراً وشاعرة نصوصاً بلغاتهم الأصلية، مع ترجمات لمن يلقون بغير الفرنسية. قلت في نفسي: يا له من أمر يتطلب الكثير من الجلد لدى الجمهور. لكن سرعان ما خاب ظني، إذ كان وحده مشهد الجمهور المتوزع بالحديقة تلقائياً وعفوياً كفيلاً بانكسار رتابة الحفلات الخطابية. ثمة عائلات حاضرة بمختلف الأعمار، ثمة عشاق يجلسون بمنتهى الأريحية، وثمة تنوع في منصات الإلقاء وطرقه، إذ لا غرابة في أن يقتادك أحد المنظمين كي تنبعث فجأة من وسط الجمهور لتلقي نصك وأنت مستظل بشجرة، مع ما تخلل ذلك من مقطوعات موسيقية لعازفين وعازفات مشهورين أدوا وصلاتهم بمنتهى العذوبة. في اليوم التالي وأنت في طريقك لتلقي أولى مشاركاتك المجدولة، تجد في طريقك معظم دور النشر الفرنسية حاضرة أمامك في ما يشبه معرض كتاب. تقول «جملتك» غير جاد لإحدى العارضات عن مدى إمكان ترك نسخ من كتابك لمجرد العرض، وبكل جدية تخرج لك ما يشبه العقد المصغر لبيع ثلاث نسخ من كتابك. بعد خروجك من المكان ونسيان الأمر، تُفاجأ بها تبحث عنك في اليوم قبل الأخير، لتسلمك ثمن بيع النسخ الثلاث! تركض للحاق بموعد أولى الفعاليات وتتجه إلى مكانك وأنت لا تعلم ما طبيعة التفاعل مع نصوصك بعد إلقائها، لتكتشف أنه ليس فقط حسن الإصغاء وتقدير ما ألقيت بعد سماع ترجمته بالفرنسية، بل ثمة من ربما قرأ ترجمات النصوص وكتب نصوصاً في ضوء ما أوحى به بعض رؤاك، وحضر ليلقي النصوص التفاعلية مع نصوص الشعراء نهاية الفعالية. تلتفت إلى الصديق الشاعر الليبي محمد زيدان الذي كان شريكاً في هذه الفعالية وتهمس له، كم سننتظر هناك لنحظى بمثل هذا التفاعل والتقدير؟ فيغمض عينه ويزم شفتيه بما يعني «انس الأمر تماماً»! لم يكن هذا نمط ومستوى التفاعل الوحيد، بل تجد في كل الفعاليات بعض الجمهور يناقشك بكل ود في محتويات نصوصك وإيحاءاتها ودلالاتها، ويطلب منك نسخاً من قصائد معينة ألقيتها، ويطلبها أصدقاؤك الشعراء والشاعرات، ليفاجئوك في ما بعد بنشرها مترجمة إلى لغات بلدانهم. من ميزات المهرجان، أنك لا تجد تمييزاً بين شاعر معروف كبير، وآخر شاب أو مغمور، فربما تجد شاعرة أو شاعراً له تجربة طويلة، ومعروفاً يشاركك في الفعالية، ويستأذنك بكل لطف أو يعتذر منك لأنه تجاوز وقته بدقيقتين أو ثلاث. حدث هذا معك بالفعل في فعالية كان فيها الشاعر الفرنسي المعروف ميشيل دوغي مشاركاً. وغيره كثر، إذ بلغ عدد الشعراء والشاعرات الفرنسيين المشاركين ما يقارب الـ30، إلى جانب شعراء وشاعرات معروفين من إسبانيا والأرجنتين وكولومبيا وصربيا وتركيا وإيران، وغيرها من البلدان المستضافة من خارج دول البحر الأبيض المتوسط، باستثناء الكويت واليمن والسودان والصومال وجيبوتي وموريتانيا، فحضر على الأقل شاعر أو شاعران من كل دولة عربية. وعدا النقاشات الصاخبة بسبب أوضاع الربيع العربي وخلفياته التي كان الحوار فيها في شكل عربي صرف، ومجالاً لفرجة الأصدقاء غير العرب، فسجل الشعراء والشاعرات العرب حضوراً جميلاً على صعيد تفاعل الجمهور مع نصوصهم وتجاربهم، تقام في اليوم أكثر من 20 فعالية شعرية وموسيقية، إما منفردة أو مصاحبة، ومع ذلك لم يحدث أن تأخر انطلاق فعالية عن موعدها المحدد بالجدول، وهو عمل ليس بالسهل لمن جرّب المشاركة أو التنظيم في فعاليات مشابهة أقل، بخاصة مع فرادة اختيار الأماكن والمواقع التي تقام بها الفعاليات، فربما تلقي وأنت على متن زورق بحري لجمهور من السياح، أو من أعلى مطل يشرف على المدينة، أو في وسط زقاق بين صفين من البيوت ومارة يتوقفون، ويواصلون عبورهم. هناك لا يختارون لك مترجماً لغوياً فحسب ليؤدي نصوصك برتابة، بل فناناً درامياً يجسد حتى حركاتك أثناء الإلقاء. تنقضي الأيام السبعة سريعاً لتكون عودتك ومغادرتك هذا العالم مثل من أُخرج من سماوات جنّة الشعر إلى دنيا ينسحق فيها بدوامة الوظيفة والعمل، وصراعات الريادة والأفضلية والفرادة، والتذكير ما بين فينة وأخرى بأن لك علاقة ما بشيء اسمه الشعر. سبعة أيام في سيت