منذ الرابع عشر من أغسطس/آب عام 2013، ولا يزال ذاك السؤال يطاردني: كيف كانت السماء ذاك اليوم؟ أنظر إلى صورة معراج محمود سعد، الذي لم يصعد بروحه فقط، ولكن بجسده أيضاً، إلى موطنه الأصلي؛ حيث يركض فرحاً بعد أن أتم ركضه حياءً في الأرض، مقتدياً في ذلك بأبينا آدم -عليه السلام- الذي ركض فيها حياءً من الله أولاً قبل أن يركض فرحاً، أنظر إلى هدوئه في مشهد لا يكتمل إلا بالفزع السائد في خلفيته؛ لأرى السماء أمامي في مشهد لا يكتمل إلا بالمشهد الأرضي. أرى السماء هادئةً كابتسامة محمود ذاك اليوم، بينما الأرض تفزع وترتجف، بدلاً من كل طبيب يبكي حَوْلَه كان مَلَكٌ يبتسم، بدلاً من كل قطرة دم تسيل كانت قطرة من الكوثر تنزل عليه برداً وسلاماً، بدلاً من كل صريخ يُدَوِّي كانت همهمات الملائكة "وَرَبٍّ راض غير غضبان" تهمس في أذنيه، محدثةً أثراً يفوق ما أحدثه ذاك الصخب، بدلاً من كل من يرافقه من البشر، يؤنسه سنبل وأُبي والشافعي، ولكن أكانوا يسيرون إلى السماء العلا معاً بأيد متشابكة كتشابك أرواحهم الموصولة بجدائل الصدق منذ خُلِقَت، أم أنهم كانوا يسيرون تبعاً؟ أم أنهم كانوا متناثرين في السماء كتناثرهم على الأرض ذاك اليوم، بينما تقوم الملائكة باستقبال كل منهم على حدة، فكانت السماء مزدحمةً تزاحماً يشبه تزاحم الراقصين في الأعراس، تزاحماً تتلامس فيه أجساد الأرواح الصادقة بعد أن تفرقت إبّان سعيهم في الأرض؟ أكان محمود وشاكر وجودة يذكران بعض المواقف المضحكة أثناء مرورهما همسا استحياءً من أن تسمعهما الملائكة؟ أم كانت الملائكة هي من تستحي منهما؟ أكانت تقوم الملائكة بالتباهي بين بعضها البعض، فتلك تفخر بحمل حامل كتاب الله، وتلك تسعد بحمل مُسعِد الناس، وتلك تسعى مسرعةً في إيصال من كان مسارعاً في الخيرات، وتلك تتغنى بحمل المتغنِّي بالقرآن، وتلك يكفيها أنها تحمل ذاك القلبَ الذي غَلَبَ نورُه نورَهم مجتمعين؟ أم أنهم -وأظن ذلك هو ما حدث- أبَوْا أن يُحملوا، فحلَّقوا، كالمولود يمد أطرافه رافضاً أن يحمله الطبيب ويُقيِّده، إلا أنهم كانوا هم من يُتداوَى بهم؟ وبينما هم يحلِّقون، أكانت الملائكة تقف في صَفَّيْن أثناء معراج الشهداء إلى الرفيق الأعلى، كاصطفاف الأنبياء أثناء معراج الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ أكانوا يعرُجون في شعاع يتسلسل من السماوات العلا إلى الدنيا، من النور إلى الظلام، من السعة إلى الضيق، وهم يضحكون ولا يبكون؟ أم أنه لم يكن معراجاً أصلاً وكانت السماء -بوسعها- هي مستقرَّهم، بينما النور يملأ الوجود حولهم كما أحسبهم كانوا يملأون حديث الملائكة، حديثهم عن أولئك الذين كانوا نوراً دون أن يخلقوا على هيئته، عن أولئك الذين علموهم إجابة سؤالهم الأول، "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"؟ أم أنهم قرروا تأجيلَ المعراجِ، والتحلُّقَ للسمر في السماء، منتظرين كل من يأتي بعدهم ليستقبلوه، ثم يُتمُّوا معراجَهم معاً؟ ولكني لا أحسب المشهد هكذا مكتملاً.. أنظر إلى رمضان إبراهيم وهو يبكي على والدته، فلا ألبث إلا وقد رأيت السماء تبدل حالها، أو أنها كانت كذلك طيلة اليوم أصلاً، لا أظن أن كل ما حدث إِبّان بكاء رمضان -في مشهد مصغر لحال الأرض يومها- هو أن الملائكة قد دونت ذلك في كتبها ومَضَتْ مبتسمةً في استقبال الشهداء، تاركةً الأرض من تحتها يحدث فيها ما يحدث. كلما رأيت مشاهد الهلع والحسرة التي سادت الأرض ذاك اليوم، أبصرتُ السماء وقد أصبحت ملائكها شياطين، ونسماتها ناراً، وجناتها جحيماً، أبصرتها مزدحمةً بالملائكة الغاضبين لا الباسمين، أبصرتها وقد تَبَدَّل همس الملائكة وأصبح رعداً يَصُمُّ آذان العالمين، أبصرتهم مقبلين على الله -إقبالاً تعلموه من إقبال حبيبة على لقاء حبيبها- رافعين إليه الشكاوى والدعاء، أبصرتُ الملائكة التي تدك الجبال دكاً مُنهَكةً من حمل الدعوات ذاك اليوم إلى الله، أبصرتُهم -أثناء رؤيتهم ذوي الشهداء- حيارى، وأثناء سماعهم تكبيرات النساء وأيديهم ملطخة بالدماء صامتين خاشعين، وربما بكوا، ربما بكوا. ربما بكت الملائكة بينها وبين بعضها لأخوات أسامة وهم يبحثون عن جثمانه. ربما بكوا، أبصرتُهم يلعنون الظالمين، أبصرتُهم ناقمين ولكني لا أحسبهم عاجزين، أبصرتُهم وقد عَلِموا -ورأوا رأي العين- ما أعدَّه الله للملاعين، فهوَّن ذلك عليهم، ولكني لا أظنه أيضاً قد منعهم من البكاء. وإني قد رأيت السماء كاملةً على وجه أسماء ذاك اليوم في الأرض قبل السماء، ألهذا كان يحمل اسمها لفظ السماء؟ رأيت المَشهدَيْن، رأيت المشهد الأول في تلك السكينة التي كانت تغمرها، ولكن تلك الهَزّة التي كانت في نظراتها لا بد أنها كانت من المشهد الآخر، ولا أظنها قد تعجبت من المشهد الآخر، بل أظنها كانت تنتظره، وتنتظره بشدة، ليقينها أن السماء لا ترضى بما يحدث على الأرض. وقد رأيت السماء كاملةً كذلك في الشهداء أنفسهم في حياتهم الدنيا، في بسماتهم وضحكاتهم في لحظاتهم الأخيرة، المخلوطة بغضبهم وسعيهم لغيظ الظالمين، رأيتها في إقبال حبيبة غير المُستوعَب، في لقطة السنوسي الخالدة معه، في بهجة أنس في نَوبَة حراسته الأخيرة، ومع كل ذلك، يظل لو أن لي أمنيةً تتحقق، ولُقيَا بشهيد، لتمنيت أن ألقى الشامي ليصور لي مشهد السماء ذاك اليوم. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.