النسخة: الورقية - دولي ضمن إطار فكري كلاني وسؤال وجودي مشغول ثقافياً يطرح حازم صاغيّة (مقالته «فرصة (ثقافية) للسوريين، وربما للعرب» الحياة 29/3/2014) إمكانية أن تكون الحالة السورية التي خلقتها الثورة بمثابة فرصة للتحول الثقافي لمجتمعاتنا بعد حلول ما يشبه اليأس السياسي نتيجة الظروف المحلية والإقليمية والدولية المحيطة بالثورة، والمآل غير المشرّف لنتائج التغيير السياسي الحاصل بتدخل ومساعدة خارجية كما في ليبيا والعراق سابقاً. يتكثف السؤال المطروح كما يأتي: «هل يمكن لليأس من التدخل أن يمهد لانتقال بؤرة التركيز من «السياسي» (إسقاط النظام بمعونة طرف خارجي) إلى «الثقافي» (مسؤولية الشعوب والجماعات عن مصائرها وبلدانها في صيغتها الوطنية الراهنة أو في صيغ أخرى)؟»... «لربما شكل انتقال كهذا، من «السياسي» إلى «الثقافي»، في ما لو أتيحت له الفرصة، ثورة ثانية لن تقل أكلافها عن أكلاف الثورة الأولى». لكن السؤال لا يقوم في الفراغ بل يرتكز على وصف سابق لواقع الحالة السورية بحيث «يقال هذا وفي الخلفية أن العفن لفّ «السياسي» بفاعليه الرئيسين، أي النظام بعنفه الهمجي المصحوب بالتحلل الميليشوي الذي يوازي تفتت البلد ومناطقه وسلطاته، والثورة التي تكاد الحرب الأهلية والأزمة الإقليمية تبتلعانها فيما يتضخم جيبها الإسلامي التكفيري على حساب جيبها الأقل إسلامية وغير التكفيري؟». على رغم أهمية السؤال وصحة التوصيف اللذين يطرحهما صاغيّة، إلا أن مزيداً من الفصل والتفصيل في علاقة السياسي بالثقافي هو ما تحتاجه تلك «الفرصة» وذاك السؤال. فرؤية الأمر من زاوية «جدل التعايش» بين السياسي والثقافي حيث إن كلاهما صانع للآخر ومقوّم له تاريخياً، يجعلنا نقول إن النقلة الثقافية المأمولة من صيغة رمي المشاكل على الخارج وطلب الحلول منه في الوقت عينه، نحو صيغة مسؤولية شعوبنا عن «مصائرها وبلدانها»، لا تكمن في نقل بؤرة التركيز من «السياسي» إلى «الثقافي» بقدر ما تحتاج هي ذاتها (أي النقلة) إلى فعل سياسي يقوم على أسس ثقافية جديدة، ويطرح تقويمات جديدة تقطع مع الأصل القيمي الحامل للثقافة والسياسة معاً كما تجلت منذ «حملة نابليون على مصر» حتى يومنا هذا. وعليه فإن ضرب الأساس الثقافي للسياسة لدينا هو ما ينقل التركيز الاجتماعي والثقافي من البعد الخلاصي للعامل السياسي (الذي يبقى خارجياً حتى لو كان من الداخل)، نحو المسؤولية الذاتية لشعوبنا عن مصائرها، لكن بالضبط عند انتقالها إلى شعوب فاعلة سياسياً، أي انتقالها من شعوب رعيَّة إلى مواطني دولة. إن ضرب الأساس الثقافي للسياسة هو ما طرقت بابه الثورة السورية من دون أن تدخله وتتمثله كلياً بعد، وهو الرهان الذي تقاومه مجموعة القوى التي تبدأ بالنظام وأتباعه وحماته الإقليميين والدوليين وتنتهي بـ «أصدقاء» الشعب السوري المرعوبين من انتقال الحراك الثوري وثقافة الثورة إلى بلادهم، لا سيما المحيط العربي والإقليمي لسورية. في مجتمعاتنا كثير من التسييس وقليل من السياسة، ومن الفضائل الأولية للثورة أنها أعادت السياسة الى الشارع بعد تغييبها من قبل السلطة لعقود، ولكن من كبواتها أنها ما زالت مرمية في الشارع من دون أن تتمكن من لمّها ثقافياً في سياسة جديدة، وهذا ما تقف دونه مجموعات القوى المشار إليها أعلاه من دون أن يكون ذلك تبريراً لتقصيرها. لكن ما نراه وجهاً خطيراً من وجوه الدعوة التي يطرحها حازم صاغيّة هو أن التركيز على «الثقافي» بعد «اليأس» من «السياسي» هو استعادة لمقولات النظام قبل الثورة وبعدها من أن أساس المشكلة في ثقافة الشعوب لا في الأس السياسي الحاكم لتلك الشعوب، وهو ما يقتات دينياً وسياسياً على مقولات من مثل «كما تكونون يولّى عليكم»، أو أن شعوبنا «غير صالحة بالجوهر للديموقراطية» أو أنها «تحتاج لربع قرن تجهيز لتصبح مؤهلة للدمقرطة». وكل ذلك سوء فهم وتفاهم يقلب طرح صاغيّة رأساً على عقب ويفرغه من محتواه الثوري ثقافياً. إن وصف الواقع العفن للثورة والنظام كفاعـــلــين رئيـسيـــن يستلزم طباقاً وصف الواقع العفن للــسياسة الدولية التي تتزعمها، وربما توزع أدوارهـــا، إدارة أوباما بكل انحطاطها الذاتي أولاً والموجه تجاه شعوبنا وثوراته ثانياً، وهنا يحضر السؤال الصعب واقعياً: هل يمكننا صناعة مصائرنا في زمن العولمة بعيداً من مستلزمات العفن الذي يصيب الفاعلين الدوليين، وفي ظل نظام حكم يفتقد لأدنى درجات الوطنية؟ ربما كان اقتراح حازم صاغيّة المطروح على صيغة سؤال «وفرصة ثقافية» هو ما نملكه بأيدينا أمام كل العوامل المحيطة الأخرى بأيدي غيرنا التي تلتف كدائرة شبه مغلقة حول عنق ثورتنا، هذا كثير لكنه ممكن. * كاتب سوري