×
محافظة المنطقة الشرقية

تراث العالم الثقافي غير المادي على طاولة البحرين

صورة الخبر

لا يخلو نص سردي من بُعد ذاتي، وإن أخفى الكاتب صوته، ولا أعني بذلك أن النص في آخر المطاف هو نتاج وعي الكاتب ومخيلته، فهذا من نافل القول، ولكني أعني أن جانباً من تجارب الكاتب الشخصية وسيرته لا بدّ أن يتسرب على نحو ما إلى نصّه، وأنه في هذا الموضع أو ذاك يكتب شيئاً من ذاته. وهكذا لم يخلُ عمل من أعمالي الدرامية من مواقف وجدت نفسي أتماهى معها، وأستحضر فيها شيئاً من مزاجي وتجاربي الداخلية، وربما كذلك هواجسي التي أطوي عليها جوانحي ولا أبوح بها لأحد من العالمين. لكأن نظرية "التطهّر" الأرسطية في المسرح لا تقتصر على المتفرّج، ولكنها تبدأ عند الكاتب في أثناء فعل الكتابة. في مسلسلي "صلاح الدين الأيوبي" توقفت في مرحلة البحث وإعداد المعالجة الدرامية عند العلاقة بين صلاح الدين وعمه شيركوه بما يزيد على علاقة صلاح الدين بأبيه، ولولا تعهّد شيركوه لصلاح الدين وتقديمه إياه على أبنائه وأبناء أخيه، لما بلغ صلاح الدين ما بلغ من الوزارة ثم السلطنة على غير تدبير منه ولا رغبة. فوجدتني أستحضر علاقتي الخاصة بعمي محمود إبراهيم رحمه الله، فألقيت على معالجتي لذلك الجانب من القصة قبساً عاطفياً من حياتي. وكم منا تسلّطت على وعيه وخياله وحسه رغبة طاغية يلابسها التأثم، ولا قِبَل له بصدّها وطردها من موضع سرّه، وعلم في الوقت نفسه أنها ضرب من المستحيل، أو أن بينه وبينها ثمناً باهظاً من روحه وقيمه وأخلاقه، فالتجأ إلى المخيّلة يصطنع منها عالماً بديلاً وسيرة أخرى وشروطاً مختلفة تتيح له ما لا يتيحه الواقع بلا إثم ولا حرج ولا حساب ولا عقاب ولا شعور بالذنب، إنه عالم الحلم الذي يتحرر فيه صاحبه من أي إملاء إلا إملاءات الرغبة، فلا رقيب ولا حسيب، فلا حساب على ما يتحرك في القلوب وما تصنعه الأحلام، إنما الإثم على ما تصنعه الجوارح. إن كان هذا يصف حالة اختبرتها في حياتك، فأهلاً بك إلى نادٍ ستجدني فيه! ودعنا معاً نشاهد موقفاً من مسلسلي "ربيع قرطبة" يصوّر هذا الحال، وذلك حين غلب الشوق والوجد على محمد بن أبي عامر في علاقة الحب المكتومة بينه وبين صبح أم ولد الخليفة الحكم المستنصر.. فيشي لها ببعض ما في نفسه بمرافعة شعرية مؤثّرة يلتمس فيها الأعذار لما غلب على نفسه ونفسها دون إرادة منهما. والإرادة هي مناط المسؤولية والحساب، فإذا حصّنت بأسوار العفاف، فلم تخرج إلى عمل الجوارح، فلا لوم ولا عتاب، نصون بعمل الإرادة التي تعصم الجوارح ما لا إرادة لنا فيه من عمل القلوب. لم يكن ابن أبي عامر في ذلك الموقف ينطق عن نفسه فقط، وإنما كذلك عن نفسي وعن نفوس الكثيرين غيري، ولذلك استوقف المشهد الكثير من المشاهدين والمشاهدات، ودوّن بعضهم الكلام حتى حفظه؛ لأنه ضرب على وتر حساس من المسكوت عنه، وتولّى القول عمّن لا يستطيعه، دون أن يترك سبيلاً للتهمة، فكان بمثابة التطهّر الذي يأتي مع الاعتراف. وليس بوسعي الآن أن أتتبع كل ما تسرّب من عالمي الشخصي في أعمالي الدرامية، ولكني سأتوقف عند "التغريبة الفلسطينية"، فإذا كان العمل الدرامي التاريخي لا يخلو من شظايا تتناثر من سيرة الكاتب وتجاربه الشخصية، فأحرى بذلك أن يتمثل بقدر أعظم في عمل درامي عن قضية نشأ الكاتب وعاش في قلبها، وكان لها الإسهام الأكبر في تشكيل وعيه ووجدانه وأحلامه وأحزانه وذاكرته ومخيلته، بل شرط وجوده على الجملة. كيف أروي ملحمة العذاب والكفاح الفلسطينيين من خلال شخصيات واقعية يرى فيها الفلسطيني نفسه وأباه وأمه وجده وجدته وعمه وعمته وخاله وخالته وآخرين من دونهم، دون أن يغريني نبل القضية بأن أسمو بالشخصيات فوق الواقع؟ فهذا عمل سيكون المشهود فيه هو عين المشاهد الشاهد نفسه. كيف أصنع ودراما الضحايا والمعذّبين والمناضلين في واقع الحياة أكبر مما يمكن أن يبتدعه خيال الكاتب، بل أكبر من قدرته على فن السرد؟ والذاكرة ممتلئة بالمشاهدات والتجارب والأخبار والقصص، وكلها تتدافع للحضور في نص لا يمكن أن يتسع لها جميعاً.. والانتقاء من كثير متزاحم أعسر من التوسّع بالقليل، ولقد وجدتني في حال كحال المعماري الذي يفضّل الانطلاق من مرجع معماري قائم على الأرض يتصرّف به تعديلاً وتطويراً وفق معطياته المسبقة ليستوي خلقاً معمارياً آخر. أنا ابن طولكرم، المدينة الحدودية في الضفة الغربية، فلتكن بيئة الأحداث الرئيسة بعد التهجير. وبيتنا يقوم على حافة المخيم الذي ملأ وعيي ووجداني بنواحه وكفاحه منذ طفولتي المبكرة، واسترفدت الكثير من ذاكرة أهله الذين كانوا يجالسون أبي في دكانه الصغير فيفيضون في الحديث عن ذكرياتهم وأحزانهم وأحلامهم، فليكن مخيم طولكرم إذاً محط شخصياتي الرئيسة بعد اقتلاعهم من قريتهم في الداخل الفلسطيني، ولقد انتقل أبي وعمّاي إلى طولكرم من قريتهم باقة الشرقية في قضاء طولكرم، ونقلوا لنا ذاكرة حياتهم فيها بلا تجميل ولا تبخيس، فلتكن تلك القرية وتلك الذكريات مرجعي في رسم صورة القرية التي تعيش فيها شخصياتي الرئيسة قبل النكبة والتهجير، وبذلك تتشخص البيئات الرئيسة التي تتحرك فيها الأحداث والشخصيات في صورة مألوفة ذات طابع شخصي، وهي فرصة لابتعاث مرابع الصبا في مدينتي ومشاهدها القديمة التي أسست لهويتي ومخيالي وعالمي الشعري، لعل ذلك أن يكون طريقتي في شكرها وتكريمها. ولكن، هل ثمة أثر من سيرتي الذاتية وسيرة أسرتي في بناء شخصيات العمل؟ وهو سؤال ردّده الكثيرون. والجواب: نعم. ولكن تلك السيرة الشخصية والأسريّة لم تكن غير مخطط مرجعي طورت تصاميمه وجمعت أحجاره ورفعت "مداميكه" من مصادر وسير شتى. فاستعرت لذلك المخطط واستعرت منه، فظلّ له من أصله نصيب، وإن تخلّق في صورة أخرى. نعم، عانت أسرة جدي في "باقة الشرقية" من بعض ما عانت منه أسرة صالح الشيخ يونس (أبو أحمد) في قريتهم في المسلسل. وكان على كل من الأسرتين أن تواجه اضطهاد ملاك الأراضي الكبار الذين كان يغريهم بذلك افتقار الأسرة إلى العزوة العشائرية الكبيرة في القرية نفسها؛ إذ عدّوا طارئين على القرية أو "غُربية" بالدارجة الريفية. أما "حمولتهم" الكبيرة العريقة ففي بلدة أخرى من فلسطين. وكما في المسلسل كانت أسرة جدّي تضطر أحياناً إلى استضافة نفر من "الحمولة" لتستقوي بهم وتستعرض أرومتها المعتبرة أمام أهل القرية، ولكن الاستضافة ثقيلة بتكاليفها على أسرة رقيقة الحال كما كانت الغالبية العظمى من أهل الريف الفلسطيني في تلك الفترة المظلمة من الانتداب البريطاني الذي عمل جهده على إفقار الفلاحين ليدفعهم إلى بيع أراضيهم، وكما في المسلسل أيضاً تحدّت الأسرة الصغيرة ظروفها الضاغطة، وحافظت على كبريائها وعزة نفسها، وقاومت مضطهديها، بل إن تمسكها بعزة النفس على رقة الحال كان أدعى إلى استفزاز بعض زعماء القرية وكبار ملاكها، وكما في المسلسل أدركت أسرة جدّي مبكراً أن التعليم هو سبيلها إلى التحرر من ربقة الفقر والاضطهاد وإلى الخروج من حياة الريف الكئيبة. ومثل أسرة أبي أحمد في المسلسل، كانت أسرة جدي (أبو إبراهيم) تتكون منه ومن جدّتي وأربعة أبناء وبنت واحدة، وقد ألقيت على كل من شخصيات أسرة المسلسل بعضاً من ملامح شخصيات أسرتي وأمزجتهم. فأبو أحمد يلتقي مع جدّي أبي إبراهيم (كما عرفت من رواية الأسرة عنه؛ إذ لم أدركه في حياته) في رقة القلب وإيثار السلامة وتغليب العواطف، فكان يؤثر أن يبقى أبناؤه في جواره على أن ينطلقوا في الآفاق ويمشوا في مناكب الأرض سعياً لتحسين أوضاعهم. بل إن الشقاء الذي اختبره في القرية ما كان ليصرفه عن البقاء فيها، ولو هيّأ له أبناؤه حياة أفضل في المدينة. فالقرية عالمه المألوف بروائحه وأصواته وعاداته وحكاياته، فإن أخرجته منه فكأنك تخرج السمكة من بحرها، ولما ابتنى أبي وأخواه مساكن في طولكرم، وراودوه على الانتقال معهم إليه أبى، وآثر أن يبقى في بيته الطيني في القرية، فكان يتردد بين القرية ومنزلنا في طولكرم، فيدور بالبيت متمتماً ساخطاً، ثم يعود من يومه إلى القرية، حتى بلغ الحال من صحته وأدركه بعض الخرف المبكّر، ثم كان الموت راحته. كذلك كان أبو أحمد في المسلسل، ولما انتهى به التهجير إلى مخيّم طولكرم واقتلع قسراً من قريته رأيناه يغرق رويداً رويداً في عالمه الداخلي، شارداً عن نفسه وعمّن حوله حتى انقطعت صلته بالواقع وبدأ عقله يخلّط ولا يستحضر إلا الزمان المنصرم كأنه قد آثر أن يمحو ما وقع بعده من كوارث النكبة، حتى أدركه الموت. وعلى النقيض من الأب (أبو إبراهيم وأبو أحمد) كانت الأم (جدتي أم إبراهيم وأم أحمد في المسلسل)، السنديانة التي تلتف حولها الأسرة، والمرأة التي تشع قوّة وشجاعة وصموداً في وجه العواصف، وهي وإن كانت لا تقل عن زوجها حباً لأولادها فإنها لم تجعل حبها ذاك قيداً على طموحهم وحركتهم، بل كان الدافع لتشجيعهم على البحث عن حظوظهم وسعادتهم في أي مكان. "ابعدوا واسعدوا" كان ذلك شعارها، وهي تدرك أن الكلفة العاطفية للفراق عظيمة من نفسها، ولكن ذلك أهون عليها من أن تكون كلفة بقائهم من سعادتهم ومستقبلهم. أما الأخ الأكبر أحمد (القائد أبو صالح)، فيلتقي مع أبي (إبراهيم) الذي كان أكبر إخوته أيضاً، في الهيبة والصرامة والتصدّي للمظالم دون وجل من صاحب سلطة أو ثروة أو زعامة. ولما كان الأكبر فقد شارك أباه مبكراً في رعاية الأسرة والدفاع عن حقوقها وحفظ كرامتها. وكما رأينا أحمد في المسلسل يصرّ بحزم على أن يتابع أخواه الصغيران (حسن وعلي)، أحدهما أو كلاهما، تعليمهما في المدينة بأي ثمن، على الرغم من رقة الحال واعتراض الأب، فقد كان لأبي مثل هذا الموقف من أخيه الأصغر محمود الذي سيحصل فيما بعد على أعلى الشهادات العلميّة من جامعة أجنبية مرموقة، وهي قصّة مكرورة مألوفة في المجتمع الريفي الفلسطيني. فلا يسع الأسرة البسيطة أن تعلم أبناءها جميعاً في المدينة، ويكون على الكبار أن يبدأوا مبكّراً في العمل في الأرض، على أن يستثمروا في تعليم أحدهم أو بعضهم ليكون المتعلّم رافعة الأسرة كلها في المستقبل، ممهداً للأجيال التالية. هكذا مضى الأمر في أسرة المسلسل وفي أسرة أبي، إلا أن أحمد (أبو صالح) في المسلسل ينخرط في ثورة الثلاثينيات (1931 - 1939) ضد سياسات الانتداب البريطاني الرامية إلى تنفيذ وعد بلفور؛ ليصير القائد أبو صالح. وذلك ما لم يكنه أبي، ولكنهما يعودان للتشابه بعد ذلك من وجوه اجتماعية وشخصيّة شتى، فكلاهما يتزوّج من فتاة مدنيّة من حيفا، ومن الطبيعي أن يؤدي اختلاف العادات إلى بعض التوتر، وهنا يظهر جانب التزمت الاجتماعي والتسلط الذكوري في شخصيّة (أبو صالح) القائد الثوري السابق الذي قاوم الظلم على جبهتين: جبهة النضال ضد الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني، وجبهة النضال ضد تسلّط الزعامات المحلية شبه الإقطاعية. ولكن، كما علمتنا التجارب والمشاهدات، فإن الوعي الثوري يمكن أن يكون ناقصاً، فإذ يتوجه إلى القضايا الوطنية يبقى أسيراً للتقاليد الاجتماعية السائدة وثقافتها الذكورية. والذين عرفوا والدي، رحمه الله، ولا سيما أبناء العائلة، استحضروا صورته فوراً وهم يشاهدون أبو صالح يقاوم رغبة زوجته في دخول جهاز المذياع إلى البيت بوصفه صندوق الشيطان، ويهزأ بميوعة المطربين الذين يفسدون أخلاق الناس بالكلام عن الحب، ويزري بأصناف المتع، حتى البريئة منها، التي تصرف عن القضايا الجادة. وكما استحضر العارفون صورة والدي في أبي صالح، استحضروا كذلك صورة أمي -رحمها الله- في الزوجة أم صالح، فقد بنيت الشخصية على مثال أمي، حتى تماهتا في وعيي وأنا أتابع العمل من موقع المشاهد، لا من موقع الكاتب. ومثلما كان "علي"، الأخ الأصغر المتعلم، يتوسط بين الفينة والأخرى بين أخيه "أبو صالح" وزوجه ليخفف التوتر الناشئ عن اختلاف العادات والمطالب، ويستعمل دالته عند أخيه الأكبر ليرجع عن موقفه المتشدد، فكذلك كان يفعل عمي محمود مع أبي وأمي. وما كان أبي ليردّ له طلباً أو يصرف سمعه عن رأيه، فكان لأمي شفيعاً وسناداً وملجأً فوق ما يكون الأخ من الدم. وهي على أي حال كانت أرق فؤاداً وأكثر تفانياً وألطف معشراً من أن تحيل التوتر العارض إلى شقاق، وما هي حتى راضت نفسها على مزاج زوجها وبيئتها الأسرية الجديدة، كما فعلت أم صالح في قصة المسلسل، وصار عالمها الأسري القديم المفارق مجرّد ذكرى قديمة تعاودها بين الفينة والأخرى في سياق ذكرى حيفا السليبة، سقى الله أيامها، كما كانت تردد بلهجتها الدارجة، وكما التجأ أهل أم صالح إلى لبنان عام النكبة، كذلك فعلت عائلة أمّي. يكاد علي، في قصة المسلسل، أن يكون عمّي محمود في واقع الحياة بمزاجه وأخلاقه وحكمته واتزانه فضلاً عن سيرته، إلا ما اقتضاه البناء السردي والاختلاف في البيئات والمسارات، فكلاهما كان الوحيد الذي تضامنت أسرته ليتابع تعليمه في المدينة القريبة (وهي طولكرم في حالة عمي)، ثم في القدس، قبل أن يتابع دراسته الجامعية حتى الدكتوراه في جامعة أجنبية، والظروف المادية الصعبة التي عاشها علي في المدينة التي تابع فيها صفوفه المدرسية استوحيتها من حديث عمي محمود عن تجربته الشخصية القاسية. وكلاهما كان له إسهام كبير في تحسين وضع الأسرة ودعم أبنائها، وكلاهما صار أستاذاً جامعياً مرموقاً، وكلاهما أيضاً تزوّج من فتاة تنتمي إلى خلفية اجتماعية مدنيّة مختلفة. هل تذكرون مشاهد عرس علي: من تزاحم الأهل والناس في الحافلة القديمة التي تقلّهم إلى عمّان حيث بيت العروس، وأغاني الأعراس الريفية في الطريق وعند الوصول، والتدفق العفوي للقادمين إلى داخل بيت العروس، والمواقف الطريفة الناشئة عن تضارب عادات الفرح وأساليب التعبير عنه!! ضحك كثير من المشاهدين وبكوا في الوقت نفسه. شهدت بنفسي صغيراً بعض هذا، ولا أقول كله. أما حسن الأخ الذي يكبر عليّاً بقليل في قصة المسلسل، ويشاركه الخبز الحافي والمتع الصغيرة والأحزان الكبيرة والأحلام البعيدة، فقد استلهمت شخصيته من عمي (محمد) الذي توفي في ميعة الصبا، فأورث الأسرة حزناً مقيماً، وكان أكثر من فجع بموته عمي محمود، فقد كانا متلازمين متصافيين. ومثل حسن في المسلسل، فاته قسراً أن يتابع تعليمه في المدينة مع أخيه، فبقيت في نفسه حسرة من ذاك، وهو الذي تروي الأسرة أنه كان بعيد الطموح، جامح الأحلام، وكان مقبلاً على الحياة يريد أن يعبّ منها عباً، وكأنه يستبق شبح الموت المقبل، وعلى الرغم من أنني لم أدركه في حياته، فقد تكفّلت الأسرة، لا سيما عمي محمود، باستحضار طيفه حتى لكأني قد أدركته، ووجدت في كتابة النص فرصة لابتعاثه سردياً من مرقده في شخصيّة حسن، ذلك الشاب النبيل الرومانسي الحالم المتأنق في مظهره على الرغم من رقة الحال، والذي يستجيب لنداء مشاعره وقيمة الإنسانية بشجاعة فذّة، فإذا عزم لم يستشر في رأيه غير نفسه، ونكب عن ذكر العواقب جانباً، سواء أكانت مواجهة مع مجتمع محافظ قاسٍ أم مع الموت نفسه، وبهذا كان يفترق عن أخيه علي الذي ينشغل بالأسئلة والتأمل عن الحسم والمبادرة السريعة، فبينما مضى علي في رحلته مع الكتاب المخطوط، مضى حسن يقرأ لغة الريح والشجر والأرض، مات عمي محمد بداء ألم به، بينما قضى حسن شهيداً في عام النكبة. أين أنا في قصة المسلسل؟ إذا التمستني وجدت بعضي في صلاح، الابن الثاني لأبي صالح، فقد أعرته مزاج صباي القلق المتمرّد وشغف المطالعة وهاجس الشعر وتقمّص الأزمات الوجوديّة التي تثيرها الكتب الغربية المترجمة انطلاقاً من وعي مفارق وبيئة صناعية متقدّمة معقدّة، ثم إسقاط ذلك قسراً على بيئة طولكرم البسيطة الريفية التي تنام مع غروب الشمس، ولا تملك ترف التفلسف حول أزمة الإنسان المعاصر، وهي التي ينفتح سهلها وأفقها على الشطر المغتصب من فلسطين! والكتب التي نراها في المسلسل على طاولة صلاح ويستعرضها أمام الآخرين، هي بعض الكتب التي كانت عندي أيام الثانوية ومنها مؤلفات لسارتر وكولن ولسون، وكنت أستوعب منه ما يكفي لإيهام الآخرين بأني أحلّق فوقهم وبعيداً عنهم في عالم الفكر والفلسفة والشعر! ولم أقاوم في كتابة نص المسلسل الرغبة في أن أؤدي واجب التحية والشكر لذلك الرجل الطيب، صاحب المكتبة الوحيدة التي تبيع تلك الكتب الأدبية والفكرية الجادة، فكان يسمح لي أن آخذ منها ما أشاء على وعد السداد المؤجل متى وسعني ذلك، فكان له بذلك فضل عليّ لا ينسى ولا يجحد، وقد ذكرت اسمه الحقيقي على لسان صالح: عبد الرحيم العلي. ولعل أبناءه قد شاهدوا المسلسل فتنبهوا إلى ذكر أبيهم باسمه، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله. هل بقي شيء مما أعرته من نفسي لصلاح؟! آه، نعم... شيء من قصّة الحب مع فتاة الشرفة! إلا أنني في واقع الحياة لم أكن لاجئاً "ابن مخيم" كصلاح، ولذا لم يكن علي أن أواجه ما واجهه في قصّة الحب تلك، من ثورة أسرة الفتاة عند اكتشاف العلاقة، بتأثير من النظرة الدونية الظالمة "لابن المخيم"؛ إذ لم يبرأ فلسطينيو الضفّة الغربية أنفسهم من إلحاق وصمة بالمخيم وأهله، فصار الناس ناسين: اللاجئين، "والوطنية" كما شاعت تسمية غيرهم من أهل البلد، وقد وجدت في بناء علاقة الحب تلك فرصة لكشف هذا الجانب المظلم في المجتمع الفلسطيني. كأني حين أعرت بعضاً من نفسي لصلاح، كنت أريد أن أتقمصه أكثر مما أردت أن يتقمّصني، فأخرج من مكاني بين "الوطنية" لأكون من أبناء المخيّم المظلومين من العدو البعيد، والأخ القريب، فلعل ذلك أن يطهّرني من الوصمة الحقيقية: وصمة التّعصب ضد المخيم الذي كان دائماً عنوان المأساة الفلسطينية، وحاضنة الكفاح والمقاومة. لم تستطع قصّة حب صلاح في المسلسل أن تصمد في وجه التّعصب والتفاوت الاجتماعي، فإذا انقضى ما بين الحبيبين سكنت العاصفة، ولم تسكن المرارة في نفس صلاح، ولا الأمل في أن يصل يوماً ما انقطع بينهما، حتى ينبهه صاحبه أن الفتاة نفسها قد انصرفت بقلبها عنه، إلى فتى آخر من "الوطنية"! هذا كل ما يذكر عن الفتى الآخر! هل تدرون من هو هذا الفتى الآخر الذي يتحول إليه قلب فتاة الشرفة في واقع الحياة؟ إنه أنا!! فقد كان فتى من المخيم يتعشّقها من قبل، ويزعم أنها تبادله العواطف وأنه يكاتبها وتكاتبه، حتى اكتشف أهلها العلاقة فصرفوا ابنتهم عنها، وانتهى ما بينهما، إذا صحّ من ذلك شيء. ثم دخلت أنا في الصورة فبادلتني حباً بحب لا لقاء فيه ولا سلام ولا كلام، إلا من الرسائل، على نحو ما قصصت في الفصل الأول، وعلمت أن الفتى ابن المخيم قد كابد ما كابد من لوعة الهجر والقطيعة. ولعله وجد في نفسه عليّ. وهكذا اخترت في نص "التغريبة" أن أتوحد معه في شخص صلاح، فألقيت عليه مني ومن الفتى فيما يمكن أن يكون مصالحة أخيرة متأخرة بين ابن "الوطنية" وابن "المخيّم"! أرأيتم إذاً كيف يمكن أن تنبث حياة الكاتب وسيرته في نصّه السردي، فيوزع نفسه في نفوس كثيرة من جهة، أو يدمج جوانب من نفسه مع جوانب من نفوس أخرى في شخصيّة واحدة من جهة أخرى!! ألا يظهر من ذلك أن الكتابة عن تجارب الحياة هي في ذاتها تجربة حياة، وأننا إذ نصوّر الواقع فإننا ننشئه على نحو ما؟ وأن كتابة الدراما يمكن أن تكون في ذاتها دراما؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.