بداية أود أن أشير إلى أن الكاتب المبدع صلاح شعير من الكَتّاب ذوي الهمة العالية، وتتعدد كتاباته ما بين الإبداع في ميدان القصة القصيرة، والرواية، والمسرح، والكتب الفكرية، والبحثية، والصحفية، ولا غربة أن نجد اقتصادياً يحكي عن البشر من خلال واقعهم فيعيش آلامهم، ويحلم أحلامهم ويتحسس رغباتهم، فيضع يده على وجعهم، وبخبرته كاقتصادي يحدد ويشخص المرض ويصف له الدواء. وأخيرًا صدر للكاتب مجموعتاه القصصيتان "أخلاق الفرسان" عن دار الجندي للنشر والتوزيع بالقاهرة، ونقول مجموعتيه حسبما قسم هو قصصه العشرين، فالمجموعة الأولى تتكون من عشر قصص اختار لها اسم إحدى قصصه وهى بعنوان "عاشق الحرية"، والمجموعة الثانية بعنوان "أخلاق الفرسان"، ورغم صدور العديد من الدرسات النقدية للكتاب من خلال النشر الصحفي، سوف تظل المجموعتان محل جذب للكثير من الباحثين المهتمين بأدب الطفل الراقي، لأن هذا الإنجاز المتفرد سيبقى محرضًا على التفاعل والنقد لأي باحث مهتم بشؤون الطفولة. • أخلاق الفرسان على درب العملاقة الكتابة الهادفة للصغار تكون بهدف التحريض على التفكير الإبداعي للطفل، وذلك بتصدير المشكلة، وعرضها عليه عن طريق الحكي الشفهى، أو عن طريق قراءتها من جانب الطفل قراءة ذاتية، وقد نجح الكاتب في تقديم وجبة معرفية ومعلوماتية في أحداث متصلة ومترابطة بإطار درامي، وراعى في هذا عدم إقحام أحداث دون داع. وفي "أخلاق الفرسان" نجد أن الكاتب وبأسلوب شيق استنطق الحيوان كما فعل ابن المقفع في كتابه الممتع "كليلة ودمنة"، حيث لجأ ابن المقفع لاستخدام الرمز باستنطاق الحيوان لمعالجة عيوب الإدارة، وكما عرف من سيرته الذاتية أنه كان من كبار رجال الديوان والحكم في عصره، وفي الأدب العالمي نحا كثيرون نحو ابن المقفع، وعلي سبيل المثال الكاتب الفرنسي رينيه جويليو، وقد سار صلاح شعير على درب العملاقة بخصوصية مصرية وعربية. وإذا كان أغلب من تعرضوا للكتابة النقدية لما يقدم للطفل قد اتفقوا على ضرورة أن يكون العمل ممتعًا ومسليًا، وأن هذا في حد ذاته غاية كبيرة، ومطلوبة لنجاح العمل الإبداعي لجذب الطفل ليواصل القراءة، وفي "أخلاق الفرسان" نجد أن أهدافاً أخرى قد تحققت بجانب المتعة المقدمة في الإطار القصصى، فجاءت المعارف المتنوعة تلقائية، وبطريقة شيقة، كما انتصرت القصص لفكرة العدالة من خلال تثبيت مبدأ الثواب والعقاب، والتحفيز نحو السلوك الإيجابي، وإعلاء قيمة الأخلاق، وأسلوب الكاتب يقود الطفل حتما نحو تنشيط القدرة علي التفكير المنطقى، وإطلاق مكامن القدرات الذهنية، والعقلية بحيث يسهل عليه متابعة الأحداث من خلال تسلسلها الرائع، ليصبح التعليم من خلال المتعة والتسلية. كما حرص المؤلف على استخدام لغة سهلة تناسب قاموس الطفل المعرفي. التناص مع الحضارة المصرية في فكرة العدالة: حققت قصص صلاح شعير فكرة التناص مع الحضارة المصرية القديمة، عند التأصيل لقيمة العدالة في قصة "أخلاق الفرسان" والتى تزين الغلاف كاسم للمجموعتين القصصيتين، والتي نجد فيها أن الطفلة "أسماء" تسأل أباها محتارة عما أصاب زوجة الأسد، وببحث الأمر نكتشف أنها خالفت الناموس، وكسرت القواعد، وهجمت على أنثى الغزال وأكلتها وهي حامل، وهذا ضد عرف وتقاليد الغابة، يعلمنا زوجها الغزال فضيلة التمسك بالحق، ولو كنت ضعيفا وخصمك قوياً، فالحق منتصر دائماً في مجتمع يعرف قيمة الحق، وينتصر لها في ظل محاكمات عادلة. يتقدم الغزال بشكواه لملك الأسود الذي يستنكر فعلة زوجة الأسد، وتنعقد المحاكمة العلنية لتعترف اللبؤة بالجريمة، ولم تعتصم بالإنكار للإفلات من العقاب، لأنها فعلا شرعت في عقاب نفسها ذاتياً، وامتنعت عن الطعام، حتي أنها سقطت ميتة حزناً على ما لحقها من عار، ويتفاخر الجنس الحيواني ويتباهي بقدرته على الإنصاف وتحقيق العدل حيث يقرر أنه محرم التعرض لأنثي حامل. ولعل من الأهمية بمكان أن نذكر أن المصرى القديم استقر لديه هذا المفهوم في المحاكمات القانونية، ومن أشهر المدونات القانونية: مدونة بوخاريس (أو بوخوريس) التي علمت الدنيا القانون، والعدل، والإنصاف، لأن المصري القديم عرف التقاضي على درجتين، ومثال على ذلك عقوبة الإعدام كانت لا تنفذ في المرأة الحامل إلا بعد أن تضع حملها، وترضعه فترة كافية حتى لا يعاقب بريء بجرم غيره. وفي قصة "الأرنب الطماع" يتعرض الكاتب لفكرة الثوب والعقاب، ودلالتها، وترسيخها بشكل غير مباشر لدى الطفل، فالجزاء من جنس العمل دائما، فالطمع الذى يدفعك إلي السرقة دون أن يراك أحد هو ذات الفعل الذي كان سبباً في سمنة الأرنب لتختاره "عزة" لصناعة طبق الملوخية بالأرانب، ويخسر حبيبته الأرنبة البيضاء ذات العينين النجلاويتين، قد يتأخر العقاب وتفلت منه بسبب فعل معين، ولكن يأتي العدل الإلهي بطريقة لا تتخيلها لكن ثق أنه سيأتي. إعلاء المعروف، والتحذير من الغرور: الأدب الذي يحمل المعروف كقيمة إنسانية سامية؛ هو من أهم أدوات بناء البشر، وقد أكد المؤلف على هذا المعنى في قصة "حديقة البلابل" فالعم محمد النوبي الذي أنفق كل ما معه لعلاج البلبل حتى يتعافى، ويشفي؛ لا يتركه الله وحده، ويدبر أمره وتصبح البلابل بصوتها الجميل سبباً في جلب رزق وفير يعود عليه بالخير الوفير. - فنجد الكاتب في قصة "الهدهد والفلاح" يقدم بشكل ممتع وعن طريق الحكي للطفل كيف أن الهداهد عندما اتحدت استطاعت أن تصد هجمة الثعبان الذي قرر أن يلتهم بيضها وما عسى أن يجده من صغارها ليكتشف الطفل من خلال الحدث أنه وبمفهوم المخالفة أن الثعبان كان يمكنه تحقيق غرضه لو تقاعست الهداهد عن الإتحاد، ولم تصد هجوم الثعبان. ينتقل بنا الكاتب إلى دعم فكرة ما تزرعه تحصده ولا شك، إذا زرعت خيراً حصدته، وإذا زرعت شراً حصدته أيضا فكما أنقذت الهداهد العم سند فإنه يرد الجميل ويسارع وينقذها بوضع الشيح على الشجرة. - وفي قصة "الطاووس الوحيد" يوضح أن السعادة نجدها وسط الجماعة والأسرة، فلا معني للحياة إذا كنت وحيداً بمفردك بقصر جميل حديقته غنّاء بلا أنيس أو جليس، سوف يدرك الطفل بفطنته أن الطاووس ورغم معاناته إلا أن غطرسته داء أصيل فيه يتجلي ذلك في رده علي "الحمار" الحكيم قائلا: من سوء حظى لا أجد غيرك". نلاحظ أن خصلة الاستعلاء الذميمة وما تجلبه من ضُر على الإنسان وظفها الكاتب باختصار في السياق السردي ولم نشعر بها لتكون هدفاً أخلاقياً للطفل يقتضي عدم التعالي على أحد. أهمية التفكير تبادل المنافع: في قصة من "يفكر ينجح" نجد أن الموضوع يتلخص في تصدير مشكلة ويعرض بطريقة غير مباشرة رسالة للطفل فحواها ضرورة وأهمية التفكير للوصول لحل المشكلة بطريقة مبدعة. فالصغيرة "أمانى" والتي وعدها الأب ترك البطة التي أحبتها دون ذبحها بشرط أن تعلمها (أي البطة) كتابة اسمها على جهاز الحاسوب، للوهلة الأولى نجد أن الأمر يبدو صعباً إن لم يكن مستحيلا، ولكن مع تفكير "أماني" الإبداعي استطاعت أن تجعل بطتها تكتب اسمها بأن وضعت حبوب الذرة على حرف الباء والطاء والتاء المربوطة لتلتقط البطة الحبة من على لوحة المفاتيح الواحدة بعد الأخرى ليتكون اسمها على الشاشة وتنقذ البطة من الذبح. قد يعلو صوت يعارض تصدير فكرة الذبح في السياق السردي بحجة المحافظة على مشاعر الطفل من مجرد التخيل للمشهد العنيف وهو مشهد الذبح أو بدعوى جر الطفل إلى ضر نفسه أو غيره بالتقليد، لكن أرى أن الفكرة وتوظيفها درامياً كانت طبيعية ومن ضمن الأحداث التي تمر بحياة أطفالنا اليومية والتي يتفهم الطفل أنها ضرورة حياتية. ومازالت القصة أداة للمعرفة في إطارها المشوق المثير عند صلاح شعير، فنجد "بسمة" في قصة "الزقزاق والتمساح" ترتعد خوفا على الطائر الجميل وتحاول صديقتها دعاء لفت انتباهه لتقذف حجراً بجواره ليطير حتى لا يأكله التمساح، ليكتشفا معاً - وبعد السؤال - أن طائر الزقزاق صديق التمساح لأنه الطائر الوحيد المسموح له تنظيف أسنان التمساح من بقايا الطعام واللحوم، ولن يغيب الهدف والرمز من وراء القصة، فتحفيز الناشئة والأطفال على ضرورة الاهتمام بنظافتهم الشخصية وسلامة أسنانهم من الدروس المهمة. التحذير من التسرع في إطلاق الإحكام: يؤكد الكاتب على خطورة مبدأ السرعة في الحكم على الأشياء دون تفنيد وعلم مسبق بطبيعة ما نحكم عليه، وهو ما نفهمه عند قراءة قصة "النعامة الذكية"، فالكثير منا درج على وصف النعامة بالغباء، ومرد ذلك أنها تضع رأسها في الرمال على الرغم من كم الأخطار التي تحيط بها من ضواري الغابة التي تنتظر الفرصة لافتراسها، لكن عندما يأتي التفسير العلمي الذي يوضح للطفل لماذا تضع النعامة رأسها في الرمال، وأنها بذلك تقوم باستشعار الخطر عن طريق جهاز سمعي ذي قدرات ردارية خلقه الله في رأس النعامة لتكشف خطر الضواري التي تطاردها، وتتربص بها، نجد أننا في التراث الشعبي حكمنا عليها بالغباء، وهذا الحكم القاسي يجافي الحقيقة، فقد اكتشفنا أن النعام يتصرف بطريقة غريزية ليدفع عن نفسه الخطر، ويعرض الكاتب في إطار سردي ملائم كما معرفيا عن النعام يثري الطفل في هذه المرحلة العمرية. أما في قصة "الدجاجة الذهبية" محاولة جادة من الكاتب ليقدم لمكتبة الطفل قصة قصيرة من الخيال الواسع والذى تعانى المكتبة العربية من شحه، نظرا لأهمية الخيال في بناء عقلية الطفل. الثلوث السمعي والبيئي: يستمر الكاتب في التعبير عن المشكلة باستخدام الرمز البسيط جدًا وبما يناسب الطفل، فنجد أنه في قصة "الديك الحائر" الذي يرمز للإنسان الذي لا يستمتع بالحياة بسبب الضوضاء وازدحام القاهرة، ليلقي الضوء عليها لينبه الانسان عن مشكلته، وضرورة حلها ولن يكون له ذلك إلا بالإرادة والتصميم. ونجده في قصة الأوزة الثائرة يلفت نظر الطفل لمشاكل الوطن البيئية، وكيف يمكننا الاعتراض بطريقة حضارية. الطفل في القصة أيضا كعادته وفي ذات السياق السردي اللائق الملائم يجد كما معرفيا مناسبا لهذه المرحلة العمرية فيتعرف على بحيرة قارون منذ عصر قدماء المصريين وحتى الان بمساحاتها المتفاوتة ومدى خطورة ضخ مياه الصرف في هذه البحيرة ونفوق أسماكها ومدى هذا الضرر على الإنسان. غزارة الثراء الفكري: المجموعة بها ثراء فكري، وتنوع، ففي قصة "الحصان العربي" يعالج قضية العنصرية، ويلقي الضوء عليها لضرورة نبذها، وأنه لا خير فيها على الإطلاق ولا حصاد من ورائها إلا الشرور. يغرس الكاتب قيمة وعظمة الإنسان بنيان الله في نفس الطفل، نلمس ذلك في قصة "قوة الزراف"، حيث شراسة وضراوة الوحوش التي تنهش اللحوم بعضها بعضا وفقاً لشريعة الغاب، وعلى الزراف أن يدافع عن نفسه، وعن صغاره بكل قوة فيركل الأسد بقدمه ركلة يخر بعدها صريعا مما يثير دهشة "سماح" ومع ذلك تستمر الدهشة عندما ترى الطفلة تتشاجر الزرافات مع بعضها البعض بأعناقها، وتسأل أمها لماذا الصراع بين الزرافات لم يكن عنيفا مثلما كان مع الأسد الذي خر على اثره صريعا، لتكتشف بعد الإجابة أن هناك عهدا بين الزرافات ألا يكون الصراع بينهم بالأرجل، لتقول سماح وبلسان الحال ليت الإنسان يتعلم من الزراف ولا يقوم بقتل وحرق أخيه الإنسان. ويكشف للطفل في قصة "الوفاء والغدر" التناقض في عالم الحيوان الغريب فكيف للذئب أن يكون وفياً لزوجته، فإذا ماتت يعوي عليها طوال العام، بينما لا يتورع في الغدر ليفتك بفريسته من أجل البقاء، وفي قصة "الكهف المهجور" يكشف عن ناموس الله في الكون الذى خلق كل شيء بحساب دقيق لتوازن الطبيعة، وعرض كم معرفي عن عالم الخفاش. تعظيم قيم بناء الأسرة: نلاحظ أن هناك إطارا عاما وعاملا مشتركا عند "صلاح شعير" في مجموعته القصصية مفادها عشقه، وتعظيمه للأسرة، وتأكيده الراسخ على أهمية دورها في بناء المجتمعات ونهضتها، بل وتوضيح فكرة أن استكمال دورة الحياة يكون من خلال هذه النواة التي تنهض بالمجتمع من عثرته إذا ما سقط، بالحب تارة، والتضحية تارة، والإيثار تارة أخري، فنجد أنه في قصة الهدهد والفلاح تحارب الهداهد من أجل كيان الأسرة، والمحافظة على صغارها. وفي قصة "قلب الأم" نجد أن الحمامة البيضاء تصر على تربية فراخها بعد وفاة الذكر البني وتحارب من أجل إنقاذ صغيرها من الصياد بشكل مدهش. وفي قصة "قوة الزراف" نجد أن الزراف لا يتهيب ملك الغابة بل وتصرعه عندما يحاول افتراس صغيرها، وفي قصة "الحصان" العربي" نجد أن الحصان يتلقى الرصاصة الغادرة بدلا عن الفرس الجميلة زوجته، ورغم استعلاء الطاووس في قصة "الطاووس الوحيد" إلا إنه ومع ذلك لا يجد راحته وسكنه إلا بين أسرته، حتى بين الضواري نجد عشق الذئب ووفاءه لوليفته يجعله يعوي ليلا عليها ولسنوات. الأصالة والإستغراق في المحلية في المعالجة ثمة مميزة في مجموعة الكاتب صلاح شعير القصصية ونتمنى إعادة نشر "أخلاق الفرسان" بالرسوم الملونة في كتاب من القطع الكبير، بدور النشر الحكومية، والعربية لبث ثقافة البناء في وجدان أطفالنا، ومن أجل بناء المستقبل.