ربما تكون مشكلة معظم الذين يحللون أزمة الموصل أو يتعاطون معها اليوم أنهم يقعون إما في فخ الانحياز المطلق للمدينة، أو العداء الأعمى لها، بعيداً عن أدوات التحليل الموضوعي لتفكيك إشكالية معقدة كهذه. والحديث عن الموصل ليس سهلاً، فهي ليست مدينة صغيرة أو عابرة في سجلات التاريخ وخرائط الجغرافيا، وقد سمَّاها بعض المؤرخين قديماً بـ"رأس العراق"؛ لموقعها شمال بلاد الرافدين، وربما تكون كذلك بالفعل لكثرة العقول والكفاءات فيها، لكنها تواجه اليوم مأزقاً تاريخياً عميقاً، ربما يحدد مصيرها لعقود قادمة. ومن بين أنقاض خرائب الحروب التي عصفت بالمدينة تطل تحديات كبيرة لا يعرف أحد مَن سيواجهها ولا كيف سيكون ذلك، في بلد يعاني أزمة مالية مستحكمة منذ أكثر من عامين، مع تغييب عفوي أو متعمد للموصليين عن صنع مستقبل يخصهم بالدرجة الأساس قبل الآخرين، فمحافظة نينوى التي تعد الخزان الأكبر للعسكرية في العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة فيه هي شبه غائبة اليوم عن معركة تحرير مركزها، والعقول الجبارة التي تحتضنها في مختلف المجالات غير حاضرة لعلاج جراحها التي ما زالت تنزف حتى الساعة. ولأن التقاليد الحضرية عتيقة في هذه المدينة، فقد نشأ نمط خاص من التكوين النفسي والاجتماعي لأبنائها كغيرها من المدن الأخرى، فأهلها يتميزون بالانضباط الشديد وحسن التدبير والجدية والصرامة، وهم متحفظون في علاقاتهم الاجتماعية وأكثر انغلاقاً على ذواتهم، وربما قليلو الثقة بمن حولهم، وهو ما جرَّهم فيما بعد إلى ما يشبه السلبية في التعامل مع الأحداث العامة التي تخص العراق وحتى مدينتهم. ورغم أن المدينة تضم أعداداً كبيرة من الشعراء والفنانين والأدباء، لكنهم ومنذ سنوات هم الأقل حضوراً في المشهد الثقافي العراقي، وهذه الحالة ليست جديدة، فالوجدان الجمعي للمدينة يفتخر بأبنائها الضباط والمهندسين والأطباء والقانونيين وعلماء الدين بشكل كبير، وهو لا ينظر بذات الكيفية إلى الفنانين والأدباء، وعادة ما يغلّف ذلك بإطار ديني أو محافظ، لكن جذور المسألة أعمق من ذلك؛ حيث تتسم البنية النفسية للموصليين بالجدية الشديدة الرافضة لما يعتبرونه "لهواً وعبثاً" يتمثل في الآداب والفنون بشكلها الحديث، وقد عمَّقت كثافة الانتماء للمؤسسة العسكرية من هذه القضية بشكل واضح. ونحن اليوم أمام مشهد جديد تصدَّعت فيه العديد من التابوهات والخطوط الحمراء نفسياً واجتماعياً، وقد كان من فوائد المحنة الأخيرة أن الكثيرين من شباب الموصل تحرروا من قيد الحياء الاجتماعي النمطي والتحفظ المبالغ فيه وانطلقوا لإغاثة مدينتهم، وإعادة تأهيلها بإمكانات بسيطة دون دعم من أية جهة رسمية، وربما كان للصدمات الشديدة التي تعرَّضوا لها دور كبير في ذلك، بالإضافة إلى انتقالهم إلى مدن ودول أخرى واحتكاكهم بفئات مختلفة أكثر تحرراً، فبرزت أسماء موصلية بدأت تقود حملات لإعادة الحياة إلى المدينة والحفاظ على ما تبقَّى فيها من إرث حضاري وإنساني. وربما ستكون مفاجأة الموصل بعد تحريرها في شبابها الذين شبّوا عن طوق مجتمعهم التقليدي المحافظ، وبدأوا في رسم صورة جديدة أكثر حيوية وإيجابية لمدينتهم التي أنهكتها الحرب؛ حيث استفاد العديد منهم من أجواء الحرية التي أتاحتها لهم مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، فأصبح لهم جمهورهم ومريدوهم في بغداد والمدن الأخرى وحتى خارج العراق، وهو ما سينعكس على حجم مشاركتهم في صنع مستقبل البلاد في مرحلة ما بعد داعش. سينجلي غبار الحرب عن الموصل قريباً، ويعود أبناؤها بالتدريج إلى لعب دورهم التاريخي في رسم خطوط السياسة العامة للعراق، كما فعل أجدادهم من قبل، وستعود للمؤسسة العسكرية هيبتها في المدينة بعد قطيعة سنوات ما بعد 2003، خاصة أن العراق والمنطقة بشكل عام بانتظار تحولات قد تدفع الكثيرين إلى إعادة قراءة تجارب العنف والصراع والعزلة والقطيعة مرات ومرات، فالموصل مدينة عملاقة تمرض لكنها لا تموت. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.