«فيض المعنى» عنوان الكتاب الجديد الذي صدر عن دار الساقي للناقدة خالدة سعيد، وفيه، إذ يلتمس النص الشعري أطيافاً من دلالاته وملامحه، لا يدعي القبض على المعنى الأخير، ولا يؤمن بإمكان ذلك، كما لا يؤمن بوحدانية الحقيقة الشعرية في النص، بهذه العبارة تستهل الناقدة قراءتها لمختارات من نصوص شعرية لكل من: أنسي الحاج، عباس بيضون، زليخة أبو ريشة، أمجد ناصر، عبدالعزيز المقالح، وديع سعادة، عبدالمنعم رمضان، حسب الشيخ جعفر، محمد بنيس، جودة فخر الدين، سنية صالح. نافية عن نفسها ادعاء الإحاطة أو الاستنفاد، وذلك لأن: «كل قراءة جديدة مغامرة واكتشاف، لأنها هي بدورها فعل وتفاعل وأثر»، فـ: «النص النقدي، هنا يتخير الرحيل في الأثر الشعري، مصغياً، مستجيباً لدعواته، وإيحائه، إذ في النتيجة، مهما كثر النقاد والقراء، ومعهما تعددت النظريات والمناهج، فإننا متى وقفنا أمام النص، وأياً كان غنى الزاد، نقرأ قراءتنا ونكتب استجابتنا، فالممارسات والمناهج والنظريات النقدية تُغني رؤية القارئ بلا ريب، لكنها لا تلزمه بخطط وإجراءات محددة، بل يفترض فيها أن تفسح في المجال لخصوصية رؤية القارئ ونوعية حساسيته وتعدد زوايا النظر، لا أن نقيدها، لأن الرائي قطب فاعل في الرؤية ومتدخل، بقدر ما هو محل للتأثر بتاريخ المتلقي وتراثه فإنه فاعل فيه ومؤثر، لذلك تبدأ الناقدة بالقول: «إنني لا أقدم هنا أحكاماً، أو نظريات نهائية، بل أقدم دعوة للسفر». تبدأ الناقدة بالشاعر المختلف عن جيله تماماً: أنسي الحاج إذ تقول عنه: جاء أنسي الحاج مباغتاً، ولا سيما في أعماله الأولى: «لن - والرأس المقطوع - وماضي الأيام الآنية»، جاء لا يبحث عن التجديد من داخل الموروث الشعري وأركانه الجمالية، لا يبحث عن الانتماء ولا يرتاح على التطوير، بل يسعى إلى خلع الذاكرة وكتم الحنين، يخرج إلى التمرد واليتم، يطوي المواجع مرتجلاً في اتجاه صوت طالع من البريّ والمقموع، وهذا مشروع مزعزع خطير سيبقى واقفاً على الحد، لأن الحنين والحنان، اللذين بقيا راسخين في الموروثين العربي والغربي، لا يظهران في أعمال أنسي الحاج الأولى إلا مكتومين وحتى مخنوقين، يتفجران بين الحين والحين، بشكل مفاجئ وسط سياق غرائبي عبثي مشغف بالسخر، وهذا العنف الداخلي أعطى لتلك المجموعات الثلاث درجة عالية من التوتر والغرابة، وإن كان قد أفسح لأمواج مأساوية وسط مناخ العبث. (..) كان أنسي الحاج في أعماله هذه، في قطب مقابل أو مختلف عما شغل الشعراء يومذاك، ولا أقصد هنا موجة «الشعر الملتزم» أي الذي خاض في المسائل الوطنية والسياسية خوضاً مباشراً، بل أقصد جماعة «شعر» ومن التف حولهم من شعراء شغلتهم قضايا جوهرية، إنسانية فلسفية ورؤى تاريخية أو متعالية، انشغل أنسي الحاج بالبحث عن قطب للحضور في العالم، بالبحث عن مفصل بين غريزة الحياة وإغواء الغياب، كان يومذاك في أوائل عشرينياته، يتولى الصفحة الثقافية في جريدة النهار، وما كان يمر وقت طويل دون أن ترتفع ضجة حول نص كتبه مخترقاً جداراً ما أو محظوراً، ومنذ عمر مبكر دخل أنسي الحاج أجواء الكتابة الشعرية دخولاً غير تقليدي، وأقدر أن أقول دخل دخولاً عاصفاً منذ كتابه الأول. وإذا انتقلنا إلى شاعر آخر يتنقل من بلد إلى بلد ويستقر الآن في أستراليا، وعنيت به الشاعر وديع سعادة، فتقول عنه الناقدة: «وديع سعادة يكتب الشهاب الذي تتركه الكارثة وراءها، يكتب انتهاك الحميم وقطع المسار ومفاجأة الأحلام، وفي ذلك يرسم العالم كوعي مجروح وحضور مسلوب، يقبض على الفظيع الهائل بشفافية الشعر، ويفاجئ التجربة وهي تدخل سيماء الذاكرة، فالذاكرة بالنسبة إلى وديع سعادة هي المنقلب الآخر للتجربة، أو هي تحولاتها الغربية، ولا يسود هنا الذكرى التي تتمثل غسقاً لا ينتهي، تتمثل كحضور مخطوف، شأن كل مخطوف، عاد كليّ الحضور، الشعر في هذا النص وسيط ومرقى، لا للوصف والتلوين، بل لتحول الماهية ولخلق الطقوسي». ونتجاوز بقية الشعراء ونصل إلى الشاعر المغربي محمد بنيس إذ تبدأ الناقدة الحديث عنه بمطلع من قصيدة له يقول فيها: «أبداً يؤجل وشوشات القلب يوقظه عمأه على هواء يسترد رنين أزمنة تضاعف في الخفاء» هذه الأبيات الخاتمة لمجموعة «هبة الفراغ» تضيء منحى الشاعر وروع قصائده وآماد رؤاه، في هذا الكتاب يتراءى عالم يلوح من«الخفاء» ويستيقظ من سبات الأسرار وطقوس الكتمان، فيه قصائد تومض ولا تصرح فتوشح بالرمز وتنحو منحى التأمل واقتصاد التعبير، وسيكون هذا الملمح مدخلاً لهذه القراءة، لكن لا بد من تعدد الزيارات مادام الشاعر لاعباً، بل ساحراً، يخفي كنوزه عميقاً، من هنا كان الكتاب، كما تشير النصوص، كتاب السُّهاد والحنين المحجب والبوح المكمم ومن ثم كتاب اللمح والإبصار. أما الشاعر اللبناني جودت فخر الدين، وبعنوان «كليم الغيم» فترى الناقدة فيه: التماس الجمال والحياة في الطبيعة عند جودت فخر الدين، هو بمثابة حجاب يظلل مناه الوحدة وإيقاع الأسى واحتضان الأسرار، نه التماس المشاهد والرؤى لتتفتح في أروقتها خفايا الشاعر وظلال الحكايات، فعالم جودت فخر الدين يتحجّب أو يتوارى فلا يلوح إلا في المرايا والغيم مرة الشاعر ونافذته على الممكن والمحتمل في كتابيه: «ليس بعد» و«فصول من سيرتي مع الغيم» الشعر في هذين الكتابين نداء للخيال واستدراج للحوار، فيه يرى الشاعر إلى عبور الزمن وتحوّل المصائر، وفيه تتمرأى نفسه وتومئ إلى خباياها، ومن شعر: «غيوم رأتني أجوب السماء بعيني لم تكترث، ومضت نحو أهدافها غير أني تشربتها أو تشربت ظلاً تساقط منها بلا هدف وبنيت سماء له في كلامي وفي خطواتي وفي وحشتي». الغيم هنا أكثر من مرآة لخواطر جودت، الغيم كليم يبث المعنى ويضيء الدواخل، والشاعر المقيم على شرفة الوحدة يشخّص الغيم ويسقط عليه رؤاه، وإنه مرآة أو وسيط استحضار لأحوال ذاتية» بما أن الذات اللاهفة المستائلة تتلامح خلف ظلال الغيوم: «تجيء الغيوم وتمضي كأمنية حائرة وفي كل يوم تجدوني وأراها تجيء وتمضي بلا ذاكرة». فكيف تُجدده الغيوم، إن لم تكن من بعض نفسه أو لعله يجدد حكاياتها؟! لقد تجاوزت بقية الشعراء الذين لا يقلون أهمية عن زملائهم، لكن المساحة المخصصة للكتاب تضيق، فتؤخر الكلام عنهم إلى مناسبة أخرى.