«أنا متفائل.. فالإنسان هو الذي يصنع الحضارات والاقتصاد والمال، وإذا نجح الإنسان العربي والمسلم في بناء حضارة في الماضي، فهو قادر من جديد على استئنافها»، بهذه الكلمات، استهل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، إجابته عن سؤال حول مستقبل المنطقة العربية، في ظل ما تشهده من اضطرابات وأوضاع استثنائية، خلال مشاركة سموه في القمة العالمية للحكومات، التي عُقدت مؤخراً في دبي. كلمات كان لها وقعها القوي على الحضور، الذي ألقى السمع باهتمام كبير، فللكلمة تأثيرها البالغ في حياتنا، خاصة إذا ما كانت صادرة عن عقلية متميزة صاحبة رؤية وبصيرة نافذة، وهذا ما نحرص على تعليمه لأولادنا. الكلمة يمكنها أن تذيب القلوب، ويمكنها أن تُلهم الأمم للتقدم والازدهار، أو تشعل فتيل ثورة، أو تخمد نار حرب. وبالكلمة، يمكن توطيد الروابط أو قطعها، يمكن بناء جسور المودة والتعاون، أو تأجيج العداوة والبغضاء، يمكن أن تكون الكلمة أساساً للبناء، أو تصبح معولاً للهدم. وربما تكون الكلمة مخادعة ورخيصة، فارغة بلا مضمون، ومكابرة بادعاء، وربما كانت من أبرز مفارقات عصرنا هذا، أن الكلمات ربما أصبحت أكثر رونقاً وبريقاً، ولكن من البادي أيضاً، أن مصداقيتها قد لا تكون على ذات المستوى من الكمال. ولكننا في دولة الإمارات، نؤمن بأن الأفعال هي دائماً أعلى صوتاً من الكلمات. فنحن أمة حباها الله بقيادة لا تدخر جهداً في ترجمة القيم التي تؤمن بها، ونشأت وتربت عليها، ترجمة عملية على أرض الواقع، قيادة صدقت القول، وأخلصت النية لله وللوطن، فكانت مصدر إلهام لشعبها والعالم، وهذا ما جبلنا عليه، كأمر من مسلمات الحياة، ولكنها في واقع الأمر منحة من المولى عزّ وجلَّ، لا بد أن نعترف بأنها أصبحت نادرة التكرار في هذه الأيام. فقد كان حديث صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أمام القمة العالمية للحكومات، نابعاً من القلب، مخاطباً الحضور دون نص مُعدٍّ مسبقاً، وكانت تلقائية ردود سموه على الأسئلة التي وجهت له خلال ذلك الحوار التاريخي، دليلاً واضحاً على مدى ما حملته كلمات سموه من مصداقية متأصلة في تكوين شخصيته. ومع تنوع الموضوعات التي لمسها سموه في حديثه من التجارة إلى الإرهاب، ومن التعاون إلى الشراكة، كانت إجابات سموه دائماً واضحة ومباشرة، بسيطة وأمينة، حتى في رده على أكثر الأسئلة صعوبة. وعندما تحدث الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الداخلية، في القمة ذاتها، تطرق سموه إلى موضوع استدامة الأوطان، وكان حديثه بالغ التأثير، فقد دار حول مفهوم الاستدامة من منظور جديد وغير تقليدي، وجاءت محاضرة سموه، لتعكس فكراً عميقاً لرجل يحمل وطنه في قلبه، ويضعه دائماً نصب عينيه، محملة بملامح من تجربة ذاتية، وبأسلوب سردي فريد. فقد روى سمو الشيخ سيف بن زايد، قصة الرحلة التي قام بها المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، إلى جزيرة صير بني ياس في الثمانينيات، في إطار جولاته الميدانية في ربوع الدولة المختلفة، وكان بصحبته عدد من أنجاله وبعض المرافقين، وإذا بالشيخ زايد وقد أوقف سيارته فجأة، وخرج منها ليبدأ بالحفر بيديه، على الرغم من قيظ الحر في فصل الصيف، وطلب من أنجاله ومرافقيه أن يساعدوه، وأن يجلبوا من المعدات ما يعينهم على ذلك. حيث هب الجميع تلبية لسموه، وكان الأب زايد، أول من حمل المعول لمواصلة الحفر، ليكون بذلك في المقدمة، كعهده دائماً صاحب المثال والقدوة، وتبعه الآخرون، حتى وإن لم يدركوا وقتها الهدف من وراء هذا الحفر، الذي استمروا فيه لمدة ثلاثة أيام، حتى وصلوا إلى أطلال بناء قديم، اتضح لاحقاً مع اكتمال عمليات البحث والتنقيب، أن هذا الموقع، ما هو إلا بقايا دير مسيحي يعود إلى القرن السابع الميلادي. فقد كان الشيخ زايد، تغمده الله بواسع رحمته، يبحث عن الاستدامة في عمق التاريخ، وبنفس الفكر المبتكر، استعرض الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، مفهوم الاستدامة بأسلوب مختلف، ابتعد عن الأطر التقليدية التي يتم عادة تناول هذا المفهوم من خلالها، حيث جاء حديث سموه مفعماً بحب الوطن، وناطقاً بصدق الإخلاص لترابه... حديثٌ ركز فيه سموه على أن استدامة الوطن ترتكز في جوهرها على الأخلاقيات المستلهمة من عمق وأصالة تاريخه، وسماحة تعاليم ديننا الحنيف، وعراقة تقاليدنا وأعرافنا المجتمعية النبيلة. وكان هذا الطرح المميز، باعثاً على إمعان الفكر والنظر في أهمية القيم التي تمثل عماد حياة الأمم والشعوب... تلك القيم المتوارثة من الآباء إلى الأبناء. وفي ختام القمة العالمية للحكومات، تحدث سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير شؤون الرئاسة، حول «استراتيجية الشباب العربي»، واختار سموه كذلك أن يكون أسلوب تناوله لهذا الموضوع مبتكراً وغير تقليدي، فبدلاً من إلقاء كلمة تقليدية. كما هو الحال في أغلب المؤتمرات والمنتديات، اختار سموه أن يعطي المجال لمجموعة من الشباب المتميز من مختلف أنحاء العالم العربي للحديث عن أنفسهم، والتعبير عن طموحاتهم وتطلعاتهم للمستقبل، ليضرب بذلك مثالاً، ويقدم قدوة في إفساح الفرصة كاملة للشباب، وجاء حديثهم مُلهماً وباعثاً على الأمل، وعلى الرغم من ذلك، بقي حجم الإلهام دون ما يمكن أن نستخلصه من دروس حملتها فكرة سمو الشيخ منصور بن زايد، بمنح الشباب الفرصة أن يكونوا هم أنفسهم مشاركين في صنع الحدث والرسالة. فما أكثر القادة المغرمين بسماع أصواتهم وهم يتحدثون، ولكن قادتنا في الإمارات من طراز آخر، طراز يؤمن أن الإصغاء إلى الناس، هو ميزة القائد الناجح، وكما ذكرت، فإن الأفعال أعلى صوتاً دائماً من الكلمات، وهذا ما شاهدناه عندما اختار سمو الشيخ منصور بن زايد أن يدفع بالشباب إلى مقدم حوار أداره سموه مع نخبة منهم، بأسلوب اتسم بالتواضع الجمّ والاحترام الشديد، وهي سمات ليست بغريبة على رمز نشأ وشب على شيم النبل المتأصلة في شخصيته. فنحن نعلِّم أولادنا أن للكلمات قوة كبيرة، وهي بالفعل كذلك، ولكن قوة الأفعال تسمو على أثر الكلمات، ويبقى الأهم، وعندما يتعلق الأمر بالدول والشعوب، أن تتسق الأقوال والأفعال في تجسيد القيم التي تمثل المتن الرئيس لعمل الحكومات. وقد قصدت أن أشير من خلال استعراضي للمحات سريعة من كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، والفريق سمو الشيخ سيف بن زايد، وسمو الشيخ منصور بن زايد، خلال القمة العالمية للحكومات، للأثر الذي تركته، بتجسيدها لمحة سريعة من القيم الرفيعة التي تمنح دولة الإمارات تميزها بين الشعوب، بتمسك قيادتها بقيمهم وتقاليدهم، وبتقديم نموذج يحتذى في التواضع والاعتدال. فقد تحدثوا بكل فخر واعتزاز عن القيم الأصيلة لديننا الإسلامي الحنيف وموروثنا الثقافي والفكري العربي العريق، لتتكامل الرسائل التي حملتها مداخلة كل منهم، لتشكل مجتمعة رسالة واحدة قوية حول المفهوم الصحيح للقيادة الناجحة. ومع احتفالنا بيوم الأم، وجدت نفسي أتدبر في هذه التجربة الفريدة، المتمثلة في متابعة كلمات تلك القامات الشامخة، والأسلوب المُلهم الذي سلكه كل منهم في تقديم أفكاره بكل التلقائية والصدقية والأمانة، حيث تكاملت سلاسة الأسلوب مع قوة مضمون الرسالة، التي تمحورت حول حب الوطن والقيم النبيلة لشعبه الكريم. فكم نحن محظوظون بقيادتنا الرشيدة، التي لا تتردد في الإجابة عن أي سؤال بكل الصراحة والوضوح والأمانة، هذه القيادة التي تؤمن أن قدرتنا على فهم المستقبل، مرهونة بالتزامنا بتذكر الماضي والارتباط بالجذور... وأن التأثير الحقيقي يكون بالفعل لا بمجرد الكلمات. وتذكِّرني هذه التجربة، ومع احتفالنا بيوم الأم، باثنتين من أعظم الأمهات، وهما «أم الإمارات» الشيخة فاطمة بنت مبارك آل نهيان، والشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، حيث كان لأسلوب تربيتهما الفريد، بالغ الأثر في بناء شخصيات قادة يقدمون للعالم كل يوم دروساً ملهمة في حب الوطن، وكيفية التفاني في خدمته ومواصلة العمل على رفعة شأنه بين الشعوب... تتطابق أقوالهم وأفعالهم نحو هدف واحد، وهو تحقيق سعادة الناس. ومهما قدمنا للشيخة فاطمة بنت مبارك آل نهيان، والشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، من شكر وتقدير، فلن نوفيهما حقهما من الثناء، فقد نشَّأن رجالاً يدركون تماماً معنى كلمة وطن، وما تمليه من التزامات وواجبات... سهروا على إعلاء شأنه، ولم يدخروا جهداً في إسعاد شعبه، وواصلوا الليل بالنهار بمداد من القيم والأخلاق الرفيعة، من أجل تحويل العالم إلى مكان أفضل. تحية إجلال وتقدير لكل أم عظيمة سهرت على تربية أبنائها، وعملت على إمدادهم بالقيم التي تعينهم على الحياة كأفراد صالحين نافعين لأنفسهم ومجتمعهم ووطنهم، ولهن جميعاً في يوم الأم، كل الأمنيات الطيبة لحياة هانئة مفعمة بالصحة والسعادة.