رغب إلي بعض من قرؤوا مقالي السابق: "انتبه ترى هذا مباحث" في أن أستوفي الحديث في هذا الموضوع، ومقاربة مناخ النشر سابقا مع ما هو عليه حاضرا. بدأت مقالتي السابقة برواية قصة واقعية طريفة، لكنني هذه المرة سأبدأ برواية هذه القصة الواقعية المخيفة: قبل عقدين ونصف، كانت قد بدأت إحدى القمم الخليجية في الكويت، وقد استعد فريق العمل في إحدى المطبوعات السعودية لتغطية هذه القمة، ومواكبة أحداثها بالقلم والصورة، وقد تأخر وصول الصور الخاصة من داخل القمة، فما كان أمام مدير التحرير إلا قطع إحدى صور القمة من إحدى الصحف الكويتية ونشرها في مطبوعته، وفي اليوم التالي كان مدير التحرير ضيفا على المباحث العامة لا لسبب ظاهر، وإنما لأن الصورة المنشورة كانت تظهر أحد المسؤولين الخليجيين وبين أصابعه "سيجارة". اندهش مدير التحرير وهو يساق إلى التحقيق؛ لأنه لم يشاهد "السيجارة" في الصورة، ونسي هذا الزميل المسكين أن رجل المباحث ـ يحفظه الله ـ قد شم السيجارة ورائحة النكوتين في ورق الجريدة! في غرفة التحقيق جيء بالصورة أمام زميلنا الصحفي، لكنه قال لهم ربما أنكم تقصدون صورة أخرى، هاتوها فهذه الصورة التي أمامي لا تظهر فيها أي سيجارة، لكن زميلنا الطيب نسي أن بصر رجل المباحث وبصيرته ترى ما لا يُرى، وأنها عيون ترمي بشرر كالصقر. قال المباحثي: دقق زين يا خوي، ناظر النقطة اللامعة هناك شمال شرق الصورة في اليد اليسرى التي تتكئ على الركبة وستعرف لو "تمقلت" جيدا أن البياض الظاهر بين الأصابع هو السيجارة. قال زميلنا: الصراحة لا أرى شيئا، لكن ربما أنها "طبشيرة" تستخدم كوسيلة إيضاح في نقاشاتهم. المباحثي : ما شاء الله عليك.. وتنكت بعد. يالله قم تراك "بتمرح" عندنا الليلة وتطلع بكرة. رد زميلنا مرتعشا: سم يا طويل العمر.. أجل خلوني أكلم أهلي أعلمهم. المباحثي: مهوب لازم، قل لهم إنك "كاشت" للبر مع ربعك. أتذكر هذه الحادثة، وأتعجب من حدة الإبصار وقوة السمع والشم التي يتمتع بها أحباؤنا في "مضافة أبو سفيان"، وهو المسمى الذي كان يطلق على توقيف المباحث في ذلك الحين. ثم إنني أحمد الله تعالى على أن هذه الحواس المباحثية قد أخذت تضعف؛ بسبب أنها لم تعد تستخدم كما في السابق، ومعلوم أن كل شيء يترك مهملا فإنه يضمر ويذوي. والواقع أن الانفتاح الذي نعيشه حاليا إنما هو نتيجة للثورة الاتصالية الهائلة، التي قد بدأت بالاختراق الفضائي الذي جاء لنا بقنوات خاصة تخرج المشاهد من سيطرة القنوات الحكومية الرسمية. ثم تبع ذلك الثورة الأكبر في وسائل التواصل الاجتماعي التي ألغت الحاجة لوزارة الإعلام، وأضعفت سيطرتها الرقابية السابقة، وصار "تويتر" وكاميرا الهاتف النقال هما أبطال الساحة، وهما صناع الأحداث الصحيحة والمكذوبة، والمختلقة وعكسها، وصار كل من يحمل جواله قادر على تقمص دور الصحفي الميداني، ونقل الحدث بمجرد وقوعه "حادثة أبو ملعقة شاهدا طازجا". سنحتاج إلى وقت يمر حتى يستوعب الرقيب الداخلي في نفوسنا ويهضم هذه التحولات، وسنحتاج إلى وضع تشريعات صارمة وتطبيقها تواكبا مع هذه المتغيرات، وسنحتاج لنرسم حدود هذه الاستخدامات، ونعرف حقوق الآخر الذي نقتحم خصوصيته، ونؤطر بعض التجاوزات الأخلاقية حتى لا نكون أسرى لشهوة الانتقام والكيد والتهريج وعدم المبالاة؛ حتى لا نعود إلى المربع الأول، ولا أن نحلق بعيدا عن كثير من القيم والحقوق والأعراف البشرية، ثم علينا أن ندرك أن هذه التحولات الكبرى تحفر الأخاديد في نفوس وسلوكيات أبنائنا الطرية على نحو سيتشكل معه في القريب المنظور جيل مغاير ومنفصل بشكل حدي عن قناعاتنا وتوافقاتنا وأمزجتنا. لا أريد أن نقسر أبناءنا ونسعى لتشكيلهم وفق ما نريد؛ لأننا لن نستطيع ذلك أصلا في ظل التأثير الساحق والانفتاح غير المحدود لهذه الوسائط، كما أن علينا أن نمتثل كلمة علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ عندما قال: "لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم".