أعادَنِي خبرُ تدشينِ أطولِ خطوطٍ للسككِ الحديديَّةِ في العالمِ (11 ألفَ كيلومترٍ) والّذي يربطُ الصينَ بألمانيَا، ويجتازُ كازاخستان وروسيا، وبيلاروسيا وبولندا، إلى اليومِ الذِي وقفتُ، أو عبرتُ فيه طريقَ الحريرِ الجنوبيَّ القديمَ، والذِي يخترقُ أفغانستان وأوزبكستان وإيران غربًا، والطريقَ الآخرَ الذِي يمرُّ بباكستان وكابول حتّى رأسِ الخليجِ!. والحقُّ أنَّني عندمَا مشيتُ بقدمَيّ علَى طريقِ الحريرِ القديمِ، اكتشفتُ أنَّهما تورَّمتَا من فرطِ المساميرِ، وبقايَا الألغامِ، ومخلَّفاتِ الدباباتِ والمدرَّعاتِ والمجنزراتِ! كنتُ أُردِّدُ لمرافِقِي الذي يحثنِي على السيرِ بالأقدام في مسافةٍ معينةٍ، والصعودِ للسيارةِ في مسافةٍ أخرَى: إنّه طريقُ الأشواكِ لا طريق الحريرِ!. إنّه نفسُ الطريقِ الذِي ملأهُ أجدادُنَا القدامَى خيرًا ورزقًا، وحضارةً وتجارةً، قبلَ أنْ يحيلُهُ الأبناءُ لبركٍ وحفرٍ من الدمِ والجثثِ!. كانَ الخبرُ المنشورُ في الأسبوعِ الماضِي يتحدَّثُ عن طريقِ الحريرِ الجديدِ الذي دشّنه الرئيسُ الصينيُّ قبلَ أن ْيزورَ ألمانيا، حيثُ استقبلَ مرفأُ دويسبورغ الألمانيّ عددًا من قطاراتِ البضائعِ الصينيةِ!. عندهَا أصبتُ بالأسَى والدهشةِ الكاويةِ وأنَا أسترجعُ سيرةَ وذكرياتِ طريقِ الحريرِ في المسافةِ بينَ باكستان وأفغانستان!. إنّه نفسُ الطريقِ الذِي شهدَ ضياعَ أممٍ وحضاراتٍ وشعوبٍ، وسطوعَ وبروزَ أممٍ وحضاراتٍ وشعوبٍ أخرَى!. حروبٌ وحملاتٌ ومجازرُ وفيضانُ دمٍ «تارةً»، وثوراتٌ وحركاتُ نهضةٍ وبناءٍ وحضارةٍ «تارةً أخرَى»! هُنَا مرّ مهزومُونَ يشربُونَ دمعَهُم وينتحبُونَ، وهُنَا أيضًا مرَّ منصورُونَ يُردِّدُونَ هتافاتِ النصرِ والحريةِ. في حالتِي، كنتُ من بين مهزومِينَ عادُوا بخسارةٍ كبيرةٍ، يومَ تحوَّلَ عُرسُ كابل إلى مأتمٍ، وفتحُهَا إلى غلقٍ تامٍ للأملِ لحين يقضِي اللهُ أمرًا كانَ مفعولاً!. علَى أنَّ طريقَ الأشواكِ والمساميرِ بينَ أفغانستان وباكستان وأوزبكستان وإيران؛ لمْ يعدْ وحدَهُ الذي يتحدَّثُ عن نفسِهِ بينَ بنِي العربِ، فلدينَا الآنَ أكثرُ من طريقٍ للدمِ يربطُ بينََ هذه الدولةِ وتلكَ، ولدينَا طرقٌ للفتنةِ، وأخرَى للتهريبِ، وثالثةٌ للتسريبِ، ورابعةٌ للإرهابِ، وخامسةٌ للتهديدِ والوعيدِ!. إنَّهَا شبكةُ الطرقِ العربيةُ الوعرةُ للحيلولةِ بينَ أبناءِ الأمةِ وبعضِهم، وبينَ شعوبِ الأمةِ وطموحاتِهَا، وبينَ عواصمِ ومدنِ الأمةِ وبينَ تنميتِهَا واستقرارِهَا!! وفي ذلكَ تُجيَّشُ الجيوشُ، وتُستنفرُ الهممُ، وتُرتفعُ صيحاتُ وشعاراتُ التصدّي للمعتدِينَ الإرهابيينَ؛ واللصوصِ المارقينَ المتجسسِينَ، وكلّهم.. كلّهم من العربِ والمسلمِينَ!. لنْ أُحدِّثُكَ هُنا عن الطريقِ بينَ مصرَ وليبيا.. أو بينَ ليبيا وتونس، أو بينَ تونس والجزائر.. بلْ لنْ أُحدِّثكَ عن الطريقِ بينَ سوريا ولبنان، أو بينَ سوريا والعراق، أو بينَ اليمن وسلطنة عمان.. سأُحدِّثكَ للأسفِ الشديدِ والمرارةِ الأشدِ عن الطريقِ بينَ الخرطوم ودارفور، وبينَ القاهرة والصعيد، وبينَ دمشق وحلب، وبينَ بيروت وصيدا، وبينَ بغداد والبصرة، وبينَ صنعاء وعدن، وبينَ الجزائر ووهران.. ومن جديدٍ أقولُ يا هوانَ الهوانِ!. مَن لَغَّمَ ويُلغِّمُ الطرقَ العربيةَ العربيةَ، والطرقَ العربيةَ الداخليةَ؟ مَن الذي يمنعُ مرورَ العِلمِ والحِكمةِ والحضارةِ والتجارةِ بينَ الدولِ وبعضِهَا؛ وبينَ المدنِ الداخليةِ وبعضِهَا؟!. لقدْ مهَّدَ الأجدادُ الأرضَ، وأزالُوا سقوفًا وجبالاً لتبزغَ الشمسُ، وتسطعَ كواكبُ التقدمِ والازدهارِ في فضاءِ الروحِ، قبلَ أنْ يساهمَ الأبناءُ في بناءِ شبكاتٍ من الرعبِ بينَ العربِ وبعضِهم، وبينَ الشعوبِ وبعضِها.. لصالحِ مَن؟!. مررتُ ذاتَ يومٍ بطريقِ نهرِ الجاشِ؛ الرابطِ بينَ السودان وأريتريا، ومررتُ بطريقٍ يربطُ صنعاء بعدن، والسنغال بموريتانيا، وسوريا بلبنان، والعراق بالأردن.. كان ذلك قبل عشرين عامًا.. ومن يومِهَا والحالُ كمَا هُو، بلْ يزدادُ سوءًا، ورائحةُ الدمِ، أو الغدرِ، أو الفتنةِ تفوحُ في معظمِ الطرقِ العربيةِ. ومررتُ منذُ سنواتٍ قليلةٍ بلْ وشهورٍ أيضًَا بينَ لندن وبلجيكا بحرًا، وبينَ بلجيكا وألمانيا برًّا، وبينَ فرنسا وألمانيا برًّا، وبينَ النمسا والتشيك، وكأنّني أمشِي فِي الجنةِ! طُرقٌ مُمهَّدةٌ، وحدائقُ غنّاءُ، وأنهارٌ عذبةٌ.. سياحةٌ وتجارةٌ وحضارةٌ.. إنَّه الفرقُ بينَ مَن يحرصُونَ علَى ملءِ الأرضِ دمًا، وبينَ مَن يملؤنَهَا خيرًا.. بينَ مَن يحرصُونَ علَى إرساءِ قِيَمِ العدلِ، ومن ثمَّ الأمنِ، ومَن يحرصُونَ على، ويتمسكُونَ بالقهرِ! إنَّهُ الفرقُ بينَ طرقِ وطرائقِ العملِ، والإبداعِ والنهضةِ، وما أكثرهَا، وبينَ دروبِ وخرائبِ الطغيانِ، والتخلُّفِ والقهرِ، ومَا أكثرهَا! sherif.kandil@al-madina.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (41) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain