من الأهمية بمكان أن نعرف عمق الوعي السائد في مجتمعنا بفكرة المواطنة وحقوق المواطن والمؤسسات السياسية والتربوية والإعلامية التي تطور وترسخ وعي المواطنين، فهل يجد الباحث متسعاً من الوقت ليدرس هذه العلاقة؟ هل الدولة "حَكَم محايد" في الصراعات السياسية والاقتصادية أم أنها طرف ذو مصالح وأهداف؟ وهل تعني "المواطنة" المساواة الاقتصادية أم تشجيع التنافس؟ في المحاضرة التي ترجمها الأخ بدر ناصر المطيري، يقول الباحث الاقتصادي "توماس مارشال" بعد حديثه عن حتمية التفاوت الطبقي "إن مسيرة عملية توسعة وتعميم حقوق المواطنة القانونية والسياسية طوال المئتي سنة الماضية قد قطعت شوطاً قصيرا في معالجة مظاهر عدم المساواة النابعة من النشاط الاقتصادي، لكن القوانين والتشريعات التي تم إقرارها أوجدت منظومة ناضجة للمواطن، ذات سقف مرتفع يتمثل بالحق العام للمواطن بالحصول على خدمات الضمان الاجتماعي والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وهكذا ظهر إلى الوجود نوع من المساواة الاجتماعية مبني على التساوي في حق التمتع بالمواطنة الكاملة التي تضمن شبكة الأمان المادي الاجتماعي". ويعتقد مارشال أن هذا النوع الجديد من المساواة "ينتمي إلى مجموعة الحقوق الاجتماعية للمواطن، والتي من شأنها أن تحد بشكل كبير من مظاهر وأشكال عدم المساواة المتجذرة في عملية الإنتاج الاقتصادي"، ومنذ أن أطلق توماس مارشال نموذجه النظري عام 1949 للمواطنة وما يترتب عليها من حقوق، تطورت النقاشات والتطبيقات للمواطنة وأخذت مسارات مختلفة عما تصوره مارشال. طرح مارشال في نظريته، تقول ورقة المحاضرة، فكرة "المواطنة الاجتماعية- الاقتصادية"، حيث يكون لكل فرد حق معلوم في الموارد والثروات المادية الأساسية على غرار حقه الثابت في المشاركة السياسية عبر الإدلاء بصوته في الانتخابات العامة، وأثمرت تأملات وطروحات صياغة نموذج مارشال ذائع الصيت ذي المراحل الثلاث لتاريخ تطور المواطنة الحديثة، ويبدو أن إحدى أهم نقاط القوة الرئيسة في تحليل مارشال "هي تأكيده أن المواطنة ليست مفهوماً نظرياً مجرداً وساكناً، بل هي جزء من عملية تطور وتكيف". وقد توج هذا التطور بظهور نوع ما من المساواة الاجتماعية القائمة على حق التمتع بالمواطنة الكاملة. وتقول موسوعة الويكيبيديا إن إسهام مارشال البارز في ميدان علم الاجتماع، كان "تقديم مفهوم الحقوق الاجتماعية باعتبارها من حقوق الفرد في دولة الرفاهية، أو كما ورد في الموسوعةthe concept of social rights understood as the welfare rights . وتعد محاضرة المواطنة والطبقة الاجتماعية تركيزا وتمهيدا للأطروحة التي نشرت عام 1950، ويصنف د. مارشال في مجال الفكر الاجتماعي السياسي ضمن قادة الليبرالية الجديدة New liberalism، التي تميزت بوعي أو ضمير اجتماعي A Liberalism with a social conscience ويقسم د. مارشال المواطنة إلى ثلاثة مكونات أو عناصر هي العنصر المدني والسياسي والاجتماعي. ويضم "العنصر المدني" من عناصر المواطنة، مجموعة الحقوق الضرورية واللازمة لحرية الفرد، وهي تشمل الحرية العامة للإنسان، وحرية التعبير والفكر والمعتقد وحرية التملك وحق التمتع بالعدالة وإجراء العقود. أما "العنصر السياسي" في المواطنة فهو حق المشاركة في تولي سلطة سياسية في أي هيئة تتمتع بصلاحية سياسية أو كناخب يختار أعضاء هذه الهيئة أو البرلمان. وأخيرا "العنصر الاجتماعي" في المواطنة، والذي يمتد ليشمل حق الحصول على حد أدنى من الرفاهية الاقتصادية أو المادية أو الأمنية، وأكثر المؤسسات التصاقاً بهذه الحقوق مؤسسات التعليم وقطاع الخدمات الاجتماعية. وقد تداخلت هذه الحقوق والعناصر فترة من الزمن، واختلطت ثم عادت لتبرز بريطانيا مثلاً ابتداء من عام 1832، قبل إقرار أول قانون للإصلاح من البرلمان، وأقرت الحقوق السياسية المتساوية للمواطن عام 1918 "أما الحقوق الاجتماعية، فقد تم تهميشها لدرجة الاختفاء في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، ولم تبدأ هذه الحقوق بالظهور والانتعاش إلا من خلال تطوير منظومة التعلم الابتدائي العام، ومع ذلك لم تتحقق لها الشراكة المتساوية مع العنصرين الأخيرين للمواطنة إلا في القرن العشرين". ويرى د. مارشال "أن النظام الطبقي يجسد عدم المساواة، ويستند إلى مجموعة من المبادئ المثالية والمعتقدات والقيم"، ويضيف "أن المواطنة وصف يمكن إطلاقه، أو مكانة يمكن إسباغها على أولئك الذين هم أعضاء كاملو العضوية في المجتمع، وكل من يحوزون هذه الصفة هم متساوون في الحقوق والواجبات". ويوضح د. مارشال أن الاتفاق في بعض المفاهيم لا يزال موضع اختلاف، إذ "لا توجد مسطرة مجمع عليها عالمياً تحدد ماهية هذه الحقوق والواجبات، ولكن المجتمعات التي تكون فيها المواطنة مفهوماً أو مؤسسة صاعدة يصبح لديها صورة متخيلة للمواطنة المثالية يمكن أن يقاس عليها ما يتحقق من إنجازات". ويرى مارشال أن فكرة المواطنة كانت منذ مرحلة مبكرة قاعدة للمساواة، كما كانت الحقوق المدنية لا غنى عنها لاقتصاد السوق التنافسي، وفي القرن العشرين اتسعت الحقوق الاجتماعية، وشمل الاتساع إدخال تغييرات مهمة في قواعد المساواة التي تجسدها المواطنة مع زيادة المداخيل المالية وتضاؤل الفجوة الاقتصادية بين العمالة الماهرة وغير الماهرة، وارتباك حدود التمايز الطبقي بين ملاك المشاريع والعمال. كما تزايد فرض الضرائب وتزايد كذلك الإنتاج، واتسع الاهتمام بتلبية احتياجات وأذواق عامة الناس، مما أدى إلى تمكين من هم أقل غنى من التمتع بمنتوجات الحضارة، وبذلك كله تطور مفهوم المواطنة، وتمدد الاندماج الاجتماعي في مجال المشاعر والروح الوطنية باتجاه الاستمتاع المادي، فمقومات نمط المعيشة المتحضرة والمثقفة، التي كانت فيما مضى حكرا على النخبة المترفة أصبحت بشكل متزايد في متناول الكثيرين. ويرى د. مارشال أن تضاؤل مظاهر عدم المساواة عزز من مطالب إلغائها نهائياً، وحاصرت مفاهيم المواطنة ومستلزماتها الامتيازات الطبقية، "فالمواطنة والطبقة الرأسمالية في القرن العشرين هما في حالة حرب، ومن الواضح تماماً أن الأولى قد فرضت تعديلات على الأخرى". وفي مقال بجريدة "الجريدة"، بعنوان "نوبل في علوم الاقتصاد ضد الديمقراطية الاجتماعية" لأستاذ التاريخ الاقتصادي "أفنر أوفر"، يقول الكاتب في نهاية المقال إنه "على النقيض من الأسواق، التي تكافئ الأثرياء والناجحين، ترتكز الديمقراطية الاجتماعية على مبدأ المساواة المدنية، وهذا من شأنه أن يخلق انحيازاً لاستحقاقات ذات مقاس واحد يناسب الجميع، ولكن كانت هناك لفترة طويلة سبل لإدارة هذا القيد، ولأن الاقتصاد يبدو مقنعاً، والديمقراطية الاجتماعية لا غنى عنها، تحور المذهبان لكي يستوعب كل منهما الآخر، ولا يعني هذا أن زواجهما يمكن اعتباره زواجا سعيداً ولكن كما هي الحال مع العديد من الزيجات غير السعيدة قد لا يكون الطلاق خيارا وارداً". (الجريدة، 17/ 10/ 2016). إن محاضرة د. مارشال تدرس العلاقة بين فكرة المواطنة والطبقة الاجتماعية، وما طرأ عليها من تطورات في التجربة البريطانية، ولا شك أننا بحاجة بعد هذه المحاضرة القيمة، إلى دراسة تبحث هذه العلاقة في التجارب العربية والتجربة الكويتية. ومن الأهمية بمكان أن نعرف عمق الوعي السائد في مجتمعنا بفكرة المواطنة وحقوق المواطن والمؤسسات السياسية والتربوية والإعلامية التي تطور وترسخ وعي المواطنين، فهل يجد الباحث متسعاً من الوقت ليدرس هذه العلاقة؟