×
محافظة المنطقة الشرقية

مؤشر التمكين يكشف ارتفاع مهارات المستهلكين

صورة الخبر

من ثقب صغير أرى طيفي تحت شجرة زنزلخت طيبة، طفلة مذعورة تأبى أن تبرح مكانها وتتابع تناوب هدهد وغراب في الوقوف لحظة الغروب فوق الشجرة الطيبة، كما اعتادت أمها أن تصفها حين تقوم بجمع حبات الزنزلخت الخضراء والصفراء ثم تلضمها برهافة في عقد لصغيرتها أو تضعها بين طيّات السجاد لحفظه من العثّ وطرد أية حشرة تجرؤ على الاقتراب. الصغيرة مذعورة؛ لأنهم أخبروها عن نيتهم المبيتة لقطع شجرة الزنزلخت إرباً، هكذا قرأتها في إحدى روايات أجاثا كريستي، شجرتها التي تُظلل مدخل بيتهم الكبير سيخلعونها ويتقشف الظل والجمال في عبثية الصورة الجديدة التي ينكسر فيها الظل ويتشظى، كما انكسرت أغصان الشجرة تحت عجلات السيارات المسرعة، لكن الصغيرة لم تغير مكانها العلني، ظلت متشبثة بالجذور المتعبة، وتتطلع إلى الهدهد والغراب يُحلقان بالتبادل على المكان حتى ظنتهما حارسي الشجرة. كبرت الصغيرة، أنا، ولم أسأل أبداً عما وراء القطع، لم أشأ أن أنسى، لكني امتلأت بمقاومة الزنزلخت وصموده، فكل مرة تهوي عليه الفؤوس لا يموت، وإنما يطلق أغصاناً جديدة مفرعة في الفضاء الأوسع ويصنع حياته مجدداً، فتشعبت الذكرى لديَّ وما يفيض من الحنين ومن تعب السنين الجائرة، اقرأ من "يختارني الإيقاع" لمحمود درويش: وكُلَّما أَبْصَرْتُ جذْعَ الزّنْزَلخْتِ على الطريق إلى الغمامِ سمعتُ قلبِ الأُمِّ يخفقُ بي أو الأرض: أسمّي صعودي إلى الزنزلخت التداعي فأستعيد مع شعر درويش أوراق العمر المتناثرة وتستبد بروحي كل الحكايات الخاشعة كما شجر الزنزلخت في مدخل قريتي كأنه يحرسها ويفيض مع رفاقه من أشجار الكافور والتوت بظل يلجأ إليه السائرون، ويختبئون من لهيب الشمس المشاكسة في نهارات الصيف، بينما يستسلم الأحبة للقمر في الليل، أما أنا فكنت أسلم مصيري للشجر يأخذني إلى نهاية الطريق، ويثير لديّ فضول كل الأسئلة، خصوصاً في رحلة الصباح والمساء الشتوية إلى المدرسة ومنها (رايح / جاي)، وبعيداً عن صمت الطبيعة أو الطين الذي تغوص فيه قدماي بعد هبّة مطر قوية، أو عن الأسئلة المنطقية حول دورة الغذاء والحياة للشجر والزرع، كان يسيطر على ذهني سؤال الفزع الذي يفوق طفولتي ويتجاوزها: ربما ندرك شرور البشر وربما نستطيع أن نقاوم الأشرار، لكن كيف نستطيع مقاومة غدر الطبيعة.. تلك الصامتة، الجميلة التي نستظل بشجرها أو نتنعم بنسيم أزهارها؟! قد يعود السؤال إلى نشأتي الدينية في أسرة ريفية متوسطة تُقسم الحياة إلى قسمين: أبيض وأسود، طيب وشرير، رجل وامرأة.. نصفين متضادين دائماً. شجر وهدهد وغراب وممر ترابي طويل بين الغيطان والزرع، ترعة وبيوت معظمها متناسق في شكله الفقير، أما البيوت القليلة التي خرجت عن هذا الشكل فلم تنبش جروح الفقر ولعل ذلك يعود إلى أن أغلبها كاد أن يكون نصباً تذكارياً أو أطلالاً محنطة تحيطها أسواراً عالية تتشبث بها أفرع الياسمين والجهنمية، بيوت فارغة إلا في المناسبات حين يحضر أهلها الذين هجروها، فتتحول الحياة فيها إلى حقيقة بدلاً من كونها مجرد متحف مغلق تّنسج حوله الحكايات التي تجمع بين بيوت الطين وبيوت الحجر، أو لعل هناك سبباً آخر يُثير التعاطف وهو أن هذا البلد، بلدنا، هو بلد الطيبين، هكذا كانوا يقولون لنا ونحن صغار، سألت جدي -رحمه الله- ذات مرة وكنت في العاشرة من عمري تقريباً: "هو الباشا اللي كان في بلدنا زي الباشوات بتوع الأفلام.. يعني كان شرير وبيضرب الفلاحين بالكرباج، ولا كان عبيط وبيصرف فلوسه على حفلات فيها رقاصة بتضحك عليه؟"، لم يتمالك جدي نفسه من الضحك ولم يُعِر دهشتي أي اهتمام، واكتفى بجملة مقتضبة: الباشا بتاع بلدنا كان راجل طيب. لكن مَن الذي بنى هذا البلد الطيب؟!يقولون في التاريخ إن البلاد التي تبدأ بكلمة كوم لها أصل فرعوني، وأن قدماء المصريين أطلقوا اسم (كوم) على الكثير من مدنهم وقراهم الموروثة والمليئة بالحدائق وكروم الفواكه، وبالتالي فإن قريتي (كوم الأطرون) هي أرضنا الفرعونية الموروثة من الأجداد، بل إنها أقدم من مركز ومدينة طوخ (البندر الذي تتبعه) والتي وردت في المعاجم باسم طوخ مجول واحتفظت بهذا الاسم حتى سنة 1808 م حتى عُرفت فيما بعد باسم طوخ الملق لوقوعها في وسط الأراضي الزراعية، يعني هي أرض زراعية بُنيت عليها مدينة اسمها الآن مركز طوخ، أما كوم الأطرون فهي كما المدينة الأم أتريب، عاصمة المقاطعة العاشرة في عصر الأسرة الرابعة وقد أسسها الفرعون سنفرو منذ أكثر من 4500 سنة، وتوافد عليها البطالمة والرومان والقبطي والإسلامي، أتريب "حت - حرى - إب" أو "قصر الإقليم الأوسط"، وكوم الأطرون تنتمي إلى أتريب ورمز أتريب هو الثور الأسود العظيم أحد أشكال الإله حورس ابن إيزيس وأوزوريس ومعبود أتريب المفضل. وأنا أنتمي إلى كوم الأطرون الابنة الوفية لأتريب، وبالتالي فإنني حفيدة إيزيس، المعادلة سهلة والمعطيات تؤدي إلى النتائج، وعلى هَدْي هذا الكلام فإن شعار محافظة القليوبية (تقع شرق النيل عند رأس الدلتا) التي تنتمي إليها أتريب وكوم الأطرون: سنبلتان والقناطر وترس، يعني الزراعة ومياه النيل والصناعة، وهو الأمر الموروث عن أتريب القديمة مسقط رأس المهندس المبدع (أمنحتب بن حابو)، معجزة عصره في فن العمارة وفي حل المشكلات الفنية في الميكانيكا والرياضة والحساب التي كانت تواجه الفرعون، وقد تم تقديس هذا الرجل العظيم، وكانوا يحتفلون بعيد ميلاده سنوياً، وعلى الرغم من مسؤولياته الضخمة في طيبة، فإنه كان شديد الولاء لمسقط رأسه في مدينة أتريب في الشمال. الأمر باختصار أن القليوبية تكرّمت بالعنصرين: الفلاحين والعمال، وهو التميز الذي ظننت في طفولتي أنه انقرض من القرى المحيطة واحتشد في كوم الأطرون، قريتي الجميلة، الهادئة التي توزعت الحياة فيها بتساوٍ بين مسلميها ومسيحييها، وهذه الشوفينية تأصلت داخلي ليس على طريقة الصورة السياحية كما في فيلم "زينب"، أو حسب أغنية محمد عبد الوهاب الشهيرة التي كتبها بيرم التونسي "محلاها عيشة الفلاح/ متهني القلب ومرتاح/ يتمرغ على أرض براح/ والغيمة الزرجة ستراه"، التي لا تُقدم تصورات حقيقية عن واقع الفلاحين بما يحمله من القسوة والإهمال وشظف العيش، لكن من منظور الحكايات والأساطير التي أعادت خلق قريتي كرمز صالح. فبخلاف حواديت الجن والعفاريت كانت هناك القصص الشعبية عن بطولات رجال البلد الطيبين، وكانت قصص الحب تنتهي عند الحدود وحوادث القتل تحدث عند أطراف البلد، كنت مولعة بسماع كل أنواع القصص، وأظن أن الحكي في حد ذاته كان يتوافق مع شخصيتي، وأن ركضي وراء كل حكاية هو ما غرس نزعتي الرومانسية في الكتابة، هذا غير الروايات المترجمة التي كوّنت بعض التفاصيل في مساحتي الخاصة ساعدتني في التعرف على حياة أخرى خارج حدودي الضيقة، فوالدي كأبناء جيله الستيني كان يحرص على شراء الكتب المترجمة التي أتاحها عصر جمال عبد الناصر بقروش قليلة، أو بالأدق بملاليم قليلة، فقرأت على سبيل المثال الحرب والسلام للروسي ليو تولستوي، والأم لمكسيم جوركي وغيرهما من كلاسيكيات الأدب الروسي قبل أن أتعرف على أدب نجيب محفوظ ويوسف إدريس وحتى يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس أو على الأقل قصص الأطفال المصورة الملائمة لعمري حينذاك؛ حيث كنت ما زلت في الإعدادية تقريباً. القراءة كانت نافذتي على العالم، والكتابة بدأت في مجلات الحائط المدرسية وأخذت منحى مختلفاً مع مجلة اليقظة التي أصدرها شباب البلد وأشرف عليها الأساتذة سعيد الشحات وجمال الجمل، وكنت أنا من جيل "اليقظة" الأصغر الذين أفسحوا له مكاناً وأدركت حينها أن جمال اللغة والكتابة لا يكتمل سوى بموضوعات تهتم بجوهر الإنسانية، أو كما كانت تقول لي جدتي: "امشي بس بالراحة وإوعي تدوسي أوي على الأرض، تحت التراب عضم اللي ماتوا"، ومع الفارق المباشر في التشبيه، لكنها كانت تريدني أن أصنع الجمال بالطريقة التي تسعدني دون أن أتخلى عن إنسانيتي. تعاليم جدتي لا تخلو من وجهها الحزين، فالحزن أصيل في ثقافتنا، ربما لأنه يجعلنا أكثر قرباً إلى الله، وهو من هذا المنظور يبتعد عن السوداوية وليس له علاقة بحكايات الموت وحزن الأربعين يوماً التي كانت تُشيد فيها كل أبراج الحزن عند موت عزيزِ وغالٍ والتي كرّست في ذاكرتي جزءاً يخاف الفقدان والهزيمة، أسعى إلى الحب وأخشاه، أفتش عن السعادة ومثل معظم المصريين -أستغفر الله- أكثر من مرة حين تصطادني نوبة ضحك!! وللحكاية بقية.. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.