انتهيت للتو من مشاهدة نسخة الممثل - المخرج أورسن وَلز من مسرحية «عطيل» مصوّرة سينمائيا سنة 1952. حينها تم تقديم الفيلم في مسابقة مهرجان «كان» باسم المملكة المغربية وهو خطف الجائزة الكبرى للمهرجان في ذلك العام مناصفة مع فيلم إيطالي عنوانه «أمل بقيمة سنْتين» Two Cents Worth of Hope أخرجه ريناتو كاستيلاني. ليست هذه المرّة الأولى التي أشاهد فيها هذا العمل الجيّد بل الثانية، لكنها المرّة الأولى التي أشاهده فيها مباشرة بعد نسخة البريطاني لورنس أوليفييه المنجزة سنة 1965. الفرق الكامن ليس في النص الرائع للأديب والمسرحي الكبير وليام شكسبير، بل في تناول ولز لذلك النص على نحو مبدع، وقيام أوليفييه بتناوله على نحو جامد وملتزم أكثر من المطلوب. طبعا كلا الفيلمين يتمحور حول موضوع أثاره شكسبير في مسرحيتيه الرومانسيتين الأخيرتين «حكاية شتوية» و«سيمبالين». لكنه كان موجودا في مسرحيات عدّة وشكّل في «عطيل» صلب الموضوع بأسره. عطيل الأسمر الداكن تزوّج دسديمونا فإذا به عرضة لمؤامرة تستخدم الغيرة وسيلة لتنفيذها. حب عطيل لزوجته ينقلب إلى غيرة عمياء وشكوك تقضي على رجاحة عقله ومشاعره لينتهي بفاجعة تدينه بالكامل. لكن مسرحيات شكسبير الرومانسية لم تكن وحدها التي اهتمّت بمسألة الغيرة وما تثيره من مأساة أو كيف يهيأ لها أن تلعب الدور الكبير في توجيه الأحداث نحو نهاياتها الحتمية، بل هي موزّعة على الكثير من أعماله الأكثر اختلاطا في الأنواع. مثلا الغيرة هي جزء من الدوافع التي حدت بهاملت لمناهضة عمّه بعدما قتل والده الملك وتزوّج والدته كما وردت في مسرحية «مأساة هاملت، أمير الدنمارك» المنشورة سنة 1602. هنا سبق شكسبير عالم النفس سيغموند فرويد مانحا التراجيديا الإغريقية المعروفة بـ«عقدة أوديب» جانبا جديدا وخفيا إلى حد بعيد. تشكل الغيرة كذلك حضورا في مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» كما في «هنري الخامس» وحتى في «تاجر البندقية» وهي أيضا في «الليلة الثانية عشرة» والنصوص التي تؤكد ذلك متوفّرة في كل هذه الأمثلة. وكلها على نحو يُدين الغيرة بكلمات واضحة. ها هو هاملت يقول: لروحي المريضة وتبعا لطبيعة الخطيئة الأصلية، كل لعبة تبدو تمهيدا لأغلاط عظيمة الامتلاء بغيرة عشوائية هو ذنب (الغيرة) تفضي بنفسها إلى الهدر.. طبعا ترجمة شكسبير من أصعب ما يمكن لأي كاتب أن يقوم به حتى وإن كان ملمّا وعارفا جيّدا باللغة الإنجليزية، لأن استخدامات المؤلف من الدقة ومن عمق الدلالات بحيث لا بد من استخلاص المعنى الكامن في العبارات قبل استخلاص المعاني الكامنة في الكلمات ذاتها. «عطيل» تبقى نموذجا وضع فيه شكسبير كل ما امتلك من قول في الغيرة ومنحه جسدا كبيرا. وهناك مفارقة تاريخية مهمة صاحبت هذا العمل الذي لا يذبل: سنة 1660 قامت ممثلة باسم مرغريت هيوز بلعب دور دسدمونا وكانت هي المرّة الأولى التي قامت فيها أنثى بالتمثيل المسرحي. المرّات السابقة كان الرجال يلعبون أدوار الرجال والنساء معا.