×
محافظة الرياض

أسماء الفائزين بجائزة الأمير خالد بن أحمد السديري للتفوق العلمي

صورة الخبر

لم تلُح نُذر مفهوم الذكاء بقوة في النصف الأخير من القرن العشرين، على الرغم من أنها كانت موضع توق وجدال وقياس بشكل أهم. ولم تكد تمضي فترة قصيرة حتى بدأ عشرات آلاف الناس يتهافتون إلى القاعات المرصوفة بالطاولات لإجراء اختبار تحديد مستوى الذكاء المعروف ب«11- بلاس». يحدد الذكاء كمفهوم موقع كل فرد ومكانته في حياته ويعتبر هذا المفهوم قديماً جداً، ويشكل الذكاء أبرز سمات الفكر الغربي بدءاً بأفلاطون وصولاً إلى سياسات رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي. وذكاء الفرد من عدمه لم يكن مرتبطاً يوماً بالتعليق على إمكاناته العقلية فحسب، بل لطالما اقترن بما يتاح له القيام به، أي أن الذكاء بكلام آخر، مسألة سياسية. وتتبدى منطقيةً هذا النوع من التصنيف أحياناً لجهة الحاجة إلى أطباء ومهندسين وقادة غير أغبياء، لكنها تحمل جانباً مظلماً في الوقت عينه. إذ يحدد الذكاء، أو غيابه المفترض ما يمكن للشخص القيام به، أو ماذا يمكن للآخرين فعله به. وتاريخ الغرب شاهد على استعمار، واستعباد، وقتل كل الذين اعتبروا أقل ذكاءً بنتيجة ذاك الحكم. إذاً الذكاء قصة قديمة بحق، لكن حبكته اكتسبت منحىً مثيراً للاهتمام في القرن الواحد والعشرين مع ارتفاع موجة الذكاء الاصطناعي، التي تثير مشاعر الرعب والإثارة في أوساط المثقفين، سيما في ظل جزم الخبراء بتسارع وتيرة هذا التطور. ولا بدّ لنا، بغية فهم سبب الاهتمام بالذكاء وموضع الخوف منه، أن نفقه موضوعه كمفهوم سياسي، وأن نستوعب على وجه التحديد تاريخه العريق كمسوغ للسيطرة. لم يشتهر تعبير الذكاء قط في أوساط الفلاسفة الإنجليز، كما لا توجد ترجمةً له في الألمانية أو اللغة الإغريقية القديمة، لكن ذلك لا يعني أنهم تلك الشعوب لم تهتم به، بل كانت مهووسة به، أو بالأحرى بجزئيته اللصيقة بالمنطق أو العقلانية. وبدأت قصة الذكاء مع أفلاطون الذي كان للفكر مرتبةً مرموقةً في كتاباته، وتفتقت عقلية هذا الآتي من عالم غارق بالأساطير والصوفية عن أمر جديد يقول إن الحقيقة المرتبطة بالواقع يمكن أن تقوم على أساس المنطق. واستخلص في كتاب «الجمهورية» بأن الحاكم المثالي هو «الملك الفيلسوف»، وتوصّل لمبدأ ضرورة حكم الأذكى، أو الاستحقاقراطية الفكرية. واعتبرت تلك الفكرة ثورية حينذاك، سيما في أثينا التي كانت لها تجربة مع الديمقراطية، غير القائمة بالضرورة على الذكاء بقدر احتكامها لنظام الأرستقراطيات- توارث النخب، الثيوقراطيات - حكم الكهنة أو الطغاة. وتناهت فكرة أفلاطون الجديدة لأسماع مثقفين متحمسين أبرزهم تلميذه أرسطو، الذي نادى بمفهوم أولوية العقل في كتاب «السياسة»، وصفات الحاكم والمحكوم. أما الفلسفة الغربية، بقناعها الحديث فيقال إنها بدأت مع المؤمن العتيق بمذهب الثنائية رينيه ديكارت، الذي لم يلحظ حتى تسلسلية الذكاء المتناقص في أوساط الحيوانات، واعتبر أن الفكر مسألة بشرية محضة، مستمداً هذا المبدأ من زهاء ألف عام من اللاهوت المسيحي الذي ارتقى بالذكاء على اعتباره أحد خصائص الروح، وشرارة القداسة المدّخرة فقط لمن هم محظوظون. واعتبرت الطبيعة برأي ديكارت خالية من أي قيمة جوهرية، مما يشرع قمع الأجناس الأخرى بصورة غير مترافقة مع الشعور بالذنب. وواصلت فكرة الذكاء المحدد للبشرية شق طريقها حتى عصر التنوير، فاعتنقها بحماسة الفيلسوف الأخلاقي الأكثر تأثيراً منذ عهد قدامى الفلاسفة، إيمانويل كانط، الذي واءم بين العقل والأخلاق، وصنف الكائنات العاقلة المسماة بشراً بأنها «غايات قائمة بذاتها»، وشرّع لنا أن نفعل ما نشاء بدون تعقل. وفي حين كانت جدلية كانط أكثر تعقيداً حيال الكائن العاقل أي الذكي بمفهوم اليوم، لكنها أفضت لخلاصة أرسطو عينها القائلة بوجود أسياد وعبيد بصورة بديهية، وأن الذكاء هو ما يميّز بينهما. وحده إطار العمل يتغير مع كل تقنية حديثة، أما الصورة داخل الإطار فتبقى كما هي. مارشال ماك لوهان كاتب كندي أولئك الذين يفاخرون بمستوى معدل لذكائهم ليسوا إلا فاشلين. ستيفن هوكينغ عالم في الفيزياء النظرية أخطر ما في الذكاء الاصطناعي اعتقاد الناس السابق لأوانه فهم معناه. إليزير يودكوسكي باحث أميركي تفوق العقل اتسم فجر الفلسفة الغربية، بتماهي الذكاء مع صفة الذكر البشري، الأوروبي، المتعلم. وفي حين ركز أفلاطون جدله حول تفوق العقل، ووضعه في خانة أدب المدينة الفاضلة صعبة المراس، اعتبر أرسطو بعد جيل واحد فقط، حُكم الرجل المفكر بديهياً وطبيعياً. 2000 لا حاجة للقول إنه بعد مرور أكثر من 2000 عام، فإن الاستدلال الفكري الذي أطلقه هؤلاء الفلاسفة لم يخرج عن مساره بعد، وقد أشار الفيلسوف الأسترالي المحافظ فال بلاموود إلى أن عمالقة الفكر الإغريقي أرسوا سلسلةً من الثنائيات المرتبطة ببعضها بعضا، التي لا تنفك تغذي أفكارنا. ولا تزال الفئات المتضادة من نوع ذكي/‏غبي، عقلاني/‏عاطفي، الفكر/‏الجسد، ترتبط ضمناً أو جهاراً بأخرى من جنس الذكر/‏ الأنثى، المتحضر/‏ البدائي، البشر/‏الحيوان. ولا تعتبر تلك الثنائيات حيادية القيمة، بل تندرج في إطار ثنائية أوسع كما يوضح أرسطو بالحديث عن المسيطر والخاضع، والسيد والعبد. ويبدو أن الثنائيات التي تسطر علاقات السيطرة كالسلطوية أو العبودية تشكل جزءاً من المسار الطبيعي للأشياء. لذا حين نفكر في تسخير الذكاء لتبرير الامتياز والهيمنة السائدة على امتداد أكثر من ألفي عام عبر التاريخ، لا عجب أن يملأ مشهد الروبوتات فائقة الذكاء قلوبنا بالرعب، سيما رجال الغرب البيض أكثر من الجماعات الأخرى التي عانت عبر التاريخ من الهيمنة الذاتية لقادة معينين، ولا تزال تحارب حتى اليوم طغاة حقيقيين. الغباء الطبيعي أخطر من الذكاء الاصطناعي سخّرت مستويات الذكاء لتبرير الفظاعات البربرية عبر التاريخ، وطالما تعرض حكم المنطق لمن ينتقده. بدءاً من ديفيد هيوم إلى فريديريك نيتشه وسيغموند فرويد وصولاً إلى عصر ما بعد الحداثة، وظهرت العديد من المذاهب الفلسفية الطاعنة بالفكرة القائمة على أننا على قدر من الذكاء بحيث نستسيغ الاعتقاد بأنا نتحلى به فعلاً، وأن الذكاء هو أصلاً فضيلةً أسمى. وحريٌ بنا اليوم، أن نشعر بقلق أكبر حيال ما يمكننا كبشر فعله بالذكاء الاصطناعي، وليس ما يسعه القيام به بذاته. ويميل البشر عادةً إلى توظيف الأنظمة الذكية ضد بعضهم بعضا، أو ينزعون لفرط الاعتماد عليها. ومن هنا، فإن الخطورة الأعظم تكمن في الغباء الطبيعي، وليس في الذكاء الاصطناعي. صفحة متخصصة تصدر عن قسم الترجمة