عقود طويلة من الفقر والجهل والبطالة والاستعباد مرت على المصريين آثروا خلالها الخنوع أجيالاً وراء أجيال حتى انتفض من القمقم مارده الحبيس بمولد جيل أبى أن يعيش في جلابيب هذه الأجيال، فنبذوه وحاربوه، تماماً كما حاربوا الثورات ضد الظلم في جميع المناسبات، على الرغم من أنها السبيل الوحيد لانتزاع حقوقهم، بل إنهم قد أخذوا في إيجاد المبررات تلو المبررات لخضوعهم هذا، الذي أطلقوا عليه زوراً وبهتاناً "صبر أيوب"، متخذين من بعض الأمثال الشعبية المفتقدة للحكمة والعقل والحق وسيلة لتثبيط الهمم وإسكات الأصوات القليلة المطالبة بانتزاع حقوقهم المسلوبة وخيرات بلادهم المنهوبة. فهم من أشبعوا آذاننا سماعاً أن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، مكتفين بذلك وكأنهم قد كفروا بباقي أبيات القصيدة التي خطها الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي، والتي تقول: "نحن الرياح ونحن البحر والسفن.. فاقصد إلى قمم الأشياء تدركها.. تجري الرياح كما رادت لها السفن"، هم من آمنوا بالمثل الشعبي القائل "اتجمز بالجميز لحد ما يطرح التين"، ففارقوا الحياة ولم تتذوق ألسنتهم تيناً ولا زيتوناً، هم من بغبغوا بأمثال شعبية تتجاوز الأخلاق والأديان وتمارس سلطة توجيهية على عقول الشباب المتحمس لصناعة مستقبله، وعلى الرغم من أن تلك الأمثال الشعبية بلا قيم ولا مُثل، فإنها بمباركتهم صنعت لهم قيماً ومُثلاً بالية ساروا في ركابها نحو الهاوية من عينة: "امشي سنة ولا تخطّي قناة"، و"على قد لحافك مد رجليك"، و"العين ما تعلاش عن الحاجب". فهذه الأمثال وأكثر وعلى الرغم مما تحمله من جمال المظهر ورشاقة الكلمات فإنها تحمل في ثناياها مشاريع إقصائية وأفكاراً عنصرية متطرفة وطبقية مقيتة تهدف لإشاعة اليأس والإحباط، ولا تحترم إنسانية الإنسان ولا تقدر تعاليم الأديان، وتضرب في نسيج ترابط المجتمع بعنف، وتذكي من روح الظلم والتخلف والتسلط والتمييز بين الخلق الواحد في تحدٍّ سافرٍ للخالق سبحانه وتعالى. وبعيداً عن الأمثال السابقة دعونا نتوقف معاً أمام مثلين شعبيين يعدان أحد أهم أسباب التخلف في مجتمعنا المصري، إنهما مثلان ربما سمعهما الجميع ملياً بمجرد إنهاء الدراسة الجامعية، في مثال صارخ لعمليات الاغتصاب الفكري المنظم: الأول هو "حِب ما تعمل حتى تعمل ما تحب"، مَثل شعبي ربما كان سبباً مباشراً في ضياع مهارات وعقليات نابغة شبت عليه فشابت أحلامها الوردية، مَثل تسمعه كثيراً عندما تفتك بك مشاكل عمل لا تحبه، وكأن الأسطورة تقول إنه مفروض عليك أن تقوم بكثير من الأعمال غير المناسبة لك حتى يبتسم لك القدر، فتعمل العمل المحبب والمناسب لقدراتك لاحقاً، مثل يذكي روح الاستسلام ولا يتناسب إلا مع شخصٍ غير مؤمن بقدراته، يتملكه الخوف من أن يعمل ما يحب، فلا سبيل لديه سوى أن يحب ما يعمل، وبمرور الوقت سيعتقد أنه يعمل ما يحب، سيترك أحلامه قليلاً وبمرور الوقت سينساها وسيرضى بأي شيء حتى يجاري عجلة الحياة التي تدور به مسرعة بلا هوادة، وعلى قدر ما يعلمه الجميع من أن تقدم الدول يتم بسواعد مبدعيها وعقول الحالمين فيها، وما توفره تلك الدول من بيئة جيدة تساعد على الإبداع في شتى المجالات، نرى العكس في بلادنا؛ حيث ترتكب جريمة قتل الإبداع مع سبق الإصرار والترصد بمباركة شعبية، فالمطلوب من الشاب فور الحصول على الشهادة الجامعية أن يحيا على أرض الوطن حاملاً للأسفار كالحمار، والشعب كله في نظر حكوماتنا الرشيدة حمار، ولا ريب من أن يضيع سنوات حياته وهو يدور حول الساقية كأي ثور، كمن سبقه من أجيال وأجيال تحمل المبررات سابقة التجهيز من نوعية "حِب ما تعمل حتى تعمل ما تحب". أما المثل الشعبي الثاني فهو "إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه"، وهو مثل تم تحريفه وعسكرته ككل شيء في مجتمعنا المصري المشوه، هذا المثل يتم استخدامه أحياناً لحث الشباب على العمل في الوظائف الحكومية التي أصابها التعفن وأودت بحياتها البيروقراطية العتيقة، فيما يتم استخدامه أحياناً أخرى لحث الشباب على التطوع والالتحاق بالوظائف التابعة للمؤسسات العسكرية والأمنية للفوز بمرتب ثابت ومعاشات جيدة، غير أن الأصل في هذا المثل الشعبي لا يمت بصلة لما جرى من تحريف وعسكرة؛ إذ يرجع تاريخه إلى العصر البيزنطي، فحينما خضعت مصر للاحتلال الروماني فرض الرومان ضرائب كثيرة عليها، من أهمها ضريبة الأنونا المدنية Annona civica وكانت عبارة عن كميات من القمح وبعض المحاصيل الزراعية يتم شحنها من مصر إلى روما حسب احتياجاتها، وسميت "الشحنة السعيدة"، وفي عصر الاحتلال البيزنطي لمصر ومنذ عام 342 تم إرسال الشحنة السعيدة للقسطنطينية في عهد قسطنطين الأول، وكان يخبز منها للبيزنطيين يومياً 80.000 رغيف خبز بما يقدر 1.095.000 أردب قمح في السنة مضافاً لها 4% قيمة تكاليف الشحن من الإسكندرية إلى القسطنطينية، فكان المجموع 1.140.000 أردب من عرق وكد المصريين، وقد كان للإسكندرية مركز الحكم البيزنطي في مصر "أنونا" خاصة بها فرضها الإمبراطور دقلديانوس عام 302 وكان لها والٍ مسؤول عن شحن القمح إلى القسطنطينية. ارتبط بهذه الضريبة مثل شعبي خاص بها "إن فاتك الميرة اتمرمغ في ترابها"، والميرة هي القمح التي كانت تزرع بمصر للإمبراطورية الرومانية، وكان ممنوعاً على الفلاح المصري أن يأخذ أية حبة منها بعد الحصاد إلا بأمر الحاكم الروماني، أما سبب هذه المقولة التي أصبحت مثلاً شعبياً أنه في تلك الحقبة من الاحتلال الروماني لمصر، كان يتم تخزين الميرة في صوامع ترابية حتى يتم شحنها إلى روما، وعندما لم يكن باستطاعة الفلاح المصري أن يتحصل على نصيبه مما زرع فكان يُنصح بأن يبحث في تراب الصوامع لعله يجد فيها بعضاً من الميرة، ومن هنا كان أصل المثل الشعبي "إن فاتك الميرة اتمرمغ في ترابها". خلاصة القول أنك لن تعمل ما تحب إلا إذا حطمت أصناماً صنعتها أجيال بائسة خانعة تحاول أن تجعل منك مسخاً مستنسخاً منها، لن تعمل ما تحب إلا إذا قضيت على معتقدات خاطئة آمن بها من وضع بلادنا في مؤخرة الأمم، لن تعمل ما تحب إلا إذا آمنت بقدراتك ومهاراتك التي وهبك الله إياها فحافظت عليها وقمت بتنميتها، ورفضت أن تكون مجرد ترس في ماكينة معطوبة لن تزيدك ومجتمعك إلا تخلفاً وجموداً. فربما أنت لست بحاجة إلى ورقة وقلم لحساب كم الخرافات التي زرعتها أنظمة وحكومات تابعة في عقول الشعب المصري على مدار عقود طويلة من الزمان، فأوهموا الناس بمقولات خبيثة من نوعية: "حب ما تعمل حتى تعمل ما تحب"، و"إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه"، غير أن ما يحدث على أرض الواقع أثبت بما لا يدع مجالاً للشك ما في نواياهم الخبيثة التي ربما ودَّت أن تجمع المثلَين الشعبيَّين في مثل واحد يزرعونه في عقول الشعب صراحة هو "حب ما تعمل.. واتمرمغ في ترابه". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.