* التيارات أيًّا كان توجُّهها سياسيًّا أم فكريًّا، لا تنشأ بين يوم وليلة، بل تتطلَّب وقتًا محدَّدًا من الزمن حتَّى تنضج وتطفو على السطح، وهذا ما يمكن من خلاله مقاربة موضوع اليمين الغربي، ممَّا رأينا أخيرًا شواهد له في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وهولندا، وفرنسا، فأحزاب اليمين، مثل جمهوريي أمريكا، ومحافظي بريطانيا، بدأت منذ بداية الثمانينيَّات الميلاديَّة باستعارة بعضٍ من مقولات اليمين المتشدِّد، رغم أنَّها تظهر العداء لها. ولعلَّ ما جرى في بريطانيا من حيث إقدام رئيس الوزراء السابق ديفيد كميرون على إجراء استفتاء حول البقاء في الاتحاد الأوروبي، أو الانسحاب منه يظهر مدى الضغط الذي تعرَّضت له كوادر حزب المحافظين من جرَّاء آراء ومقولات حزب الاستقلال البريطاني بزعامة «نايجل فراج»، بل الأمر تعدَّى حدود اللياقة السياسيَّة، عندما سعى «فراج» بأن يكون مِن أوائل مَن قابل الرئيس الأمريكي الجديد «ترامب». وقد نشأ داخل حزب المحافظين تيارٌ يحملُ موقفًا أيدلوجيًّا من الهجرة والمهاجرين الأجانب، وذلك منذ الستينيَّات الميلاديَّة. فلقد كان حزب المحافظين في المعارضة بين الأعوام: 1964-1970م، ولم تنضم بريطانيا -آنذاك- للسوق الأوروبيَّة المشتركة، وطرح الحزب بزعامة إدوارد هيثEdwardHeath ، مناقشة موضوع الهجرة من خلال ورقة تقدَّمت بها دول الكومنولث، وكان من أكثر المتحمِّسين لوضع ضوابط إزاء الهجرة إلى الدول الأوروبيَّة المتحدِّث باسم المعارضة في الشأن العسكري إينوك باول EnochPowell ، وكان شخصيَّة مؤثِّرة داخل الحزب وخارجه، وتندرج مواهبه المتعدِّدة تحت ما يُعرف بالشخصيَّة القويَّة، والتي تتداخل فيها شخصيَّة السياسي بالاقتصادي، والمؤرِّخ، ولكنَّه خرج على قيادة الحزب عندما ألقى خطابًا في مدينة بيرمنغهام، Birmingham، وكان ذلك في أبريل 1968م تحدَّث فيه عن موضوع الهجرة، محذِّرًا -من وجهة نظره- أنَّ عواقب فتح الباب أمام الراغبين في دخول بريطانيا والإقامة فيها، سوف يفجِّر ما سمَّاه «نهر الدم المتدفق»، ولم يجد زعيم الحزب «هيث» بُدًّا من إقالة «باول» من منصبه كوزير في حكومة المعارضة أو الظل، ومع أنَّ عددًا كبيرًا من أعضاء حكومة الظل أدركوا خطورة آراء «باول» على مستقبل حزب المحافظين السياسي، إلاَّ أنَّ نفرًا آخرَ كان متعاطفًا في السرِّ مع «باول»، ومن هؤلاء رئيسة الوزراء الراحلة مارجريت تاتشر، فهي تنتمي إلى اليمين المتشدِّد في الغرب.* واليوم وبعد ما يقرب من نصف قرن من الزمن على الضجيج الذي أحدثه خطاب «باول»، واعتبر خطابًا عنصريًا من قِبل الكثير، إلاَّ أنَّنا نجد من يعتنق آراء «باول» داخل الحزب وخارجه، وهي آراء تصب في الموقف السلبي من المهاجرين للجزيرة البريطانيَّة، وقد سجلت حوادث عديدة بعد ظهور نتيجة الاستفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وهي سلوكيات ليست موجَّهة للعرب والمسلمين فقط، بل حتَّى لمواطنين من دول أوروبا الشرقيَّة، والذين يشكِّلون جزءًا كبيرًا من العمالة داخل بريطانيا، ويساهمون في تشكيل نسيج المجتمع بكافة أطيافه وجذوره.