×
محافظة المنطقة الشرقية

عبدالله صالح: لم أجنِ سوى محبة الناس وهو زاد يكفيني

صورة الخبر

اعتدت، ولسنوات كثيرة، تناول قهوة الصباح في مقهى صغير بالقرب من مكان عملي، نصف ساعة كنت أختلي بها مع نفسي وجريدة الأهرام، وربما قابلت بعضاً من رفاق يعملون في أماكن مختلفة بالمدينة، لم يكن ثمة فرصة للقائهم في الظروف العادية. قبل الثامنة صباحاً، كان رواد المقهى عددهم محدود، يعرف بعضهم بعضاً، ومن بينهم نفر من كبار السن ممن أصابتهم أمراض الشيخوخة.. ولكل كان مشروبه وعالمه الخاص به. استمر الحال فترة طويلة، حتى لاحظت أن النادل يقدم لبعض رواد المقهى، وخاصة من كبار السن، مشروباً مميزاً بلون أخضر زاهٍ، ويسرع كلما هلّوا على المقهى لاستقبالهم والاحتفاء بهم.. وبمرور الوقت، زاد بداخلي حب استطلاع لمعرفة سر هذا المشروب ودار بخلدي تساؤل: لِم آثر هذا النادل هؤلاء بذلك المشروب، وحجبه عني، وأنا من رواد المقهى المستديمين صباحاً؟! كتمت غيظي وعزمت على مواجهته يوماً ما بجُرمه، مرت فترة، ثم سألته عن فعلته هذه، فلم ينكر، لكنه هز رأسه وقال بهدوء غريب، وهو يضع أمامي فنجال قهوة تتصاعد رائحته الذكية فخففت كثيراً من حدة الحوار، إن هذا المشروب بالذات لا ينبغي لي تناوله وإن القهوة تفضله بكثير! ثم صمت متشحاً بسمت المثقفين والفلاسفة. لم أقتنع بحديثه ولا بتفسيره، طالبته بتوضيح أكثر، فطالبني بدوره بكتمان السر، قلت له مؤكداً أن أحداً لن يطلع عليه. قال إنه يُجري تجربة علمية منذ فترة (نطق بكلماته وهو يتلفّت يميناً ويساراً)، وأكد بصوت رخيم صدق قوله، وعندما رأى على وجهي امتعاضاً وإنكاراً لمزاعمه، قال إن البحث العلمي ليس قاصراً على خريجي الجامعات.. هكذا، ختم النادل في المقهى عبارته ومنهياً جدلاً قصيراً دار بيني وبينه. ولما رأى صمتي وإعراضي عن الحوار، أكد مرة أخرى أن ما دفعه لإجراء تجربته ملاحظة مؤداها أن البهائم، وبشكل خاص الحمير، لا تصاب بتسوس الأسنان، ولا بهشاشة العظام.. ولما رأى إصغائي لحواره أردف قائلاً إننا نتناول من الطعام ما يمثل قاسماً مشتركاً بيننا وبين الحمير. وأسرع مؤكداً أنه لا يقصد إساءة بقدر ما يقرر حقيقة، فنحن نأكل الفول والعدس والذرة وكلها من أطعمة البهائم وخاصة الحمير.. ولست أدري وحتى الآن سر اهتمامه بالحمار بهذا الشكل! ولماذا كان حريصاً على الاستعانة به في الحوار؟! وعندما تصعدت دهشتي وبدت ملامح من البله والحيرة ترتسم من حديثه على وجهي مما يقول، عقّب بقوله إنه فكر كثيراً في إجراء تجربة علمية؛ لاختبار قدرة البرسيم على معالجة تسوس الأسنان وهشاشة العظام، وإنه اختار لتجربته بعض رواد المقهى من كبار السن، كان يُعد لهم يومياً مشروب البرسيم، مازجاً النعناع الأخضر مع أوراق البرسيم الأخضر، في آلة الخلط ثم يقوم بتصفية الخليط، وتحليته وصبه في أكواب، في لون أخضر زاهٍ.. وكان يقدم المشروب بالمجان؛ خدمة للعلم والبحث العلمي، حسب قوله! سألته: ماذا عن النتيجة؟ قال لي وهو يهرش في رأسه مستغرباً، إن رواد المقهى ممن تعاطوا مشروب البرسيم قد انقطعوا عن الحضور للمقهى صباحاً ولم يعد لهم أثر، ثم تلى ذلك مؤكداً أن تجربته قد نجحت وأن دلالة نجاحها أن هؤلاء قد هجروا المقهى؛ سعياً وراء أمور أهم في حياتهم. تركته ذاهلاً ومتوجساً، ثم هدأت نفسي لثقتي بأن القهوة لا يمكن أن تختلط مع عصير البرسيم، وهكذا أقنعت نفسي، بينما ترك النادل تجاربه العلمية مكتفياً بما حققه من إنجاز. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.