بغداد: أفراح شوقي يحاول كل من الفنانين العراقيين حسين فجر وهندرين حكمت، بإمكانات ذاتية، انتشال الموروث الشعبي الغنائي العراقي من مخاطر تلاشي، وتأسيس فرق شبابية تعنى بهذا النوع من الفنون في طقس صار نادرا وسط أكوام من مخاوف أمنية واجتماعية غزت الشارع العراقي اليوم. باحة المعهد الأهلي المخصص لتعليم الموسيقى والأغنيات التراثية، في منطقة الكرادة (شرق بغداد) غابت عنه لافتته التي تحمل اسمه؛ بسبب الوضع الأمني المرتبك اليوم ومخاوف من استهدافه من قبل ميليشيات متطرفة، كما يقول مدير معهد بيت الباشا للموسيقى الفنان حسين فجر. ويقول فجر: «تأسس المعهد في عام 2011، اخترنا هذا المكان لأنه آمن نسبيا عن بقية المناطق البغدادية، لكننا لا نستطيع وضع لافتة في مقدمته حتى الآن، وهو يحتضن مجموعة من الشباب والشابات بأعمار صغيرة يرغبون في تعلم الموسيقى ويملكون الموهبة، كما قمت وزميلي الفنان هندرين حكمت بتأسيس مجموعة بغداد للموسيقى، وهي تضم المواهب الفنية الشبابية، وبعد تدريبات مكثفة استطعنا التهيئة لتنظيم حفلهم الأول أمام الجمهور مطلع الأسبوع المقبل على خشبة منتدى المسرح العراقي». وعن تميز معهد بيت الباشا عن بقية المعاهد الأهلية الموسيقية في بغداد، قال حسين فجر إن لديه أكثر من أربعين مؤلفا موسيقيا وألحانا ومشاركات عربية كثيرة: «لا يوجد معهد يدرس الآلات التراثية في بغداد عدا معهدنا الذي يتميز أيضا بأنه معهد تطوعي يسعى للحفاظ على التراث والآلات الموسيقية التي تتعرض للانقراض بسبب إهمالها، مثل آلتي الجوزة والسنطور، ورسالتنا تكمن في إقناع الطلبة بأهميتها وهناك من يرغب في تعلمها حتى الآن». وحول سؤال عن غياب تناول ونشر الموسيقى التراثية العراقية في السنوات الأخيرة، يقول الفنان الشاب هندرين حكمت، وهو أستاذ في معهد الدراسات الموسيقية ومتخصص في العزف على آلة السنطور: «في الماضي كانت إذاعة جمهورية العراق تخصص برنامجا شهريا أو أسبوعيا يعنى بالموسيقى التراثية والمقام العراقي والأطوار الريفية، وكان لها مستمعون ومتابعون، لكن اليوم اختفت تلك البرامج من القنوات التلفزيونية والإذاعية الحكومية، وهي تخلو من فقرات الموسيقى العراقية الأصيلة في كل برامجها، مما يعرض تلك الفنون للانقراض والغياب من ذاكرة الأجيال الجديدة». وأضاف: «كل الدول تحتفي بموروثها وذاكرتها إلا نحن، فحتى المجلات والصحف تعمل لقاءات موسعة مع مطربي الموجة الجديدة والسريعة من الغناء وتتغافل عن الأصوات العراقية التي تؤدي الغناء والمقام العراقي الأصيل». «وهناك مشكلة أخرى»، يقول هندرين، «وهي عدم وجود أماكن لتقديم تلك الفنون، بالأمس كان كل من المتحف العراقي وخان مرجان يقدمان أمسيات للمقام العراقي، الآن لا يوجد مثل هكذا طقوس بسبب الانشغال بالأوضاع الأمنية والمخاوف من حمل الآلة الموسيقية علنا في الشارع». وعن مصير الفرق الموسيقية التي كانت تعنى بهذا النوع من الفنون، يقول الفنان حسين فجر: «مع الأسف كل الفرق التي سبق تأسيسها تعرضت للتشتت والتغييب بسبب (حب الأنا)؛ فكل مدير جديد للدوائر الفنية يحاول إنشاء فرق جديدة بأسماء جديدة، وكانت النتيجة أن تلاشى معظمها ولم يعد لها حضور مؤثر في الساحة الفنية المحلية أو العربية، ومعظم أعضائها هاجر أو اتجه إلى مهن أخرى». «إن أردت معرفة مدى تطور شعب فانظر إلى موسيقاه». هكذا يردد الفنان حسين فجر في حديثه عن أهمية رعاية الدولة للموسيقى والمعاهد الأكاديمية والأهلية التي تعنى بهذا النوع من الفنون، إضافة إلى تشجيع الاشتراك في المهرجانات العالمية والعربية، لما للأغنية واللحن العراقي من تفرد ومكانة، وقديما قال الفنان محمد عبد الوهاب إن كل الغناء العربي يدور في فلك الغناء المصري إلا الغناء والألحان العراقية؛ فلديها مقامات وأوزان متفردة ونادرة». واستذكر فجر بألم ما حصل من مهزلة في ختام فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013 عندما استعانت الجهات المعنية بتنظيم الحفل بموسيقى بلاي باك (مسجلة) لبعض الأغنيات والألحان التراثية فيما أبقت العازفين جالسين ديكورا فقط! «هل هذا معقول؟ وهل شحت الإمكانات الفنية القادرة على العزف المباشر أمام الجمهور لتجري الاستعانة بألحان مسجلة؟!». ولعل المشكلة الكبرى التي تواجه بقاء الألحان التراثية البغدادية ما أكده لنا الفنان هندرين من عدم وجود الحافز لتعلمها أو ممارستها، بسبب أن وزارة الثقافة العراقية باعتبارها مسؤولة عن المعهد الوحيد الذي يدرس الفنون الموسيقية في بغداد وكذلك الفروع الشرقية في مدرسة الموسيقى والباليه، لم تهيئ لخريجيها درجات وظيفية للتدريس في المعهد والمدرسة على أقل تقدير أو التعيين في مدارس وزارة التربية مدرسين لمادة النشيد والموسيقى، مما سبب شحا في المدرسين وعزوفا لدى الطالب الذي يجد شهادته الفنية بلا جدوى وهو يبحث عن وظيفة تمكنه من أداء واجباته العائلية، وكانت النتيجة أن الطالب صار يعزف عن اختيار الأقسام الموسيقية». وعن أهم ما حققه في مجال تعزيز الموسيقى، يستذكر فجر حادثة مهمة حصلت معه في يوم عيد ميلاده قبل سنتين بالقول: «طلب مني طلابي اختيار مكان للاحتفال بعيد ميلادي، فاخترت بناية خربة في شارع المتنبي وسط بغداد، وبالفعل وضعنا آلاتنا وعدتنا وبدأنا نعزف فيها وتجمع الجمهور حولنا والتقطت الصور وجرى تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي («فيسبوك» و«تويتر») وعرفت فيما بعد أن المكان يعود لمتصرفية بغداد، مما حدا بالجهات المعنية إلى إيلائها الاهتمام وتحويلها إلى مسرح جميل، وعُدَّ ذلك انتصارا للموسيقى». وبشأن المشاركات الفنية في الخارج يقول حسين فجر: «مع الأسف ما زالت هناك واسطات لمشاركات الفرق، واختيار غير ذات الكفاءة منها، وبالتالي الفشل وعدم تحقيق أي أصداء، كما أن هناك أخطاء إدارية كثيرة ترتكب في هذا المجال بسبب وجود أشخاص من غير أهل الاختصاص في قسم الإيفادات الخارجية، بعضهم لا يتقن اللغة الإنجليزية المهمة للتعاون في مثل هكذا أمور، وبعض المهرجانات ترسل خمسة عازفين مقابل عشرة إداريين ليست لهم علاقة بالفرقة! وكانت النتيجة أن انحسرت هذه المشاركات وقلت كثيرا عن السابق، وصاروا يفضلون العراقيين المغتربين في الخارج عن العراقيين في الداخل». وأخيرا شكا كل من حسين وهندرين من انقراض صناعة الآلات التراثية العراقية مثل الجوزة والسنطور، وغياب صناعها، وكذلك غياب دور ورشة الآلات الموسيقية التابعة لدائرة الفنون الموسيقية، مما حدا بهم إلى الاستعانة بقدراتهم الذاتية لتصنيعها، وهناك محاولات لآخرين لكنها غير مناسبة لأنها تنفذ بقياسات غير موحدة». وقبل أن أنهي حواري سألت الفنان هندرين عن أحلامه وطموحاته، فقال: «نحن مستمرون رغم كم المعوقات وما زلت أحلم بما ستحققه الفرقة الموسيقية الشبابية الجديدة، وكذلك المحافظة على هويتنا العراقية. أما طموحات فجر فهي تتحدد بمشاريع كثيرة أولها مشروع دعم الشباب من خلال فرقة بغداد، والثاني هو تشكيل فرقة جديدة لم نتفق على اسمها بعد، تعنى بإيصال تراثنا للعالم وتحقيق المزيد من النجاح للموسيقى وهو واجبنا الأساس». درس الفنان حسين فجر آلة العود في معهد الدراسات الموسيقية في بغداد، ثم اضطر إلى ترك الدراسة بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية في العراق آنذاك والسفر إلى سوريا في عام 1998، وعمل في سوريا عازفا لآلة العود لمدة سنتين في فرقة الفنان فؤاد سالم. وقام بالتدريس في معاهد أهلية كثيرة في سوريا، تعلم العزف على آلة الكمان والجوزة بمجهود فردي وبمتابعة وإشراف عازف الكمان الراحل طارق القيسي، ودرس الكمان بالشكل الأكاديمي في المركز الثقافي الروسي في دمشق تحت إشراف الأستاذ الروسي ياسين تورغو. عمل مع كبار الفنانين العرب مثل أصالة نصري وصباح فخري وماجدة الرومي عازفا على آلة الكمان. كما عمل مع كبار الفنانين العراقيين، وأسس في سوريا فرقة دجلة الموسيقية بإشراف الفنان طالب القره غولي. ألف فجر الكثير من القطع الموسيقية بقوالب متنوعة، ولحن ووزع مجموعة من الأغاني، وهو حاصل على شهادات تقديرية وجوائز فنية كثيرة من العراق وسوريا ولبنان والخليج، وقاد بنجاح فرقا موسيقية كبيرة وحقق بها أفضل النتائج عراقيا وعربيا. يعمل الفنان حسين فجر حاليا في معهد أهلي لتدريس الموسيقى العربية في محافظة السليمانية، إضافة إلى مشاركته للكثير من الفنان العراقيين والعرب الذين يحيون حفلاتهم في إقليم كردستان.