القرآن كتاب الله القويم، وحبله المتين، والذي أعجز العرب وهم سادة البلاغة والفصاحة، يتضمن آياتٍ قد تحتار فيها العقول، لما فيها من غموض.. ومن هذه الآيات قول الله تبارك وتعالى في سورة الفاتحة: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»، فمن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم وما صفاتهم؟ يقول ابن عباس: «قوله «أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» هم الملائكة والنبيون والصديقون والشهداء الذين أطاعوني وعبدوني»، وقال مجاهد: «هم المؤمنون». ومما جاء في مختصر «تفسير البغوي» لعبدالله بن أحمد: قوله تعالى: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» (الفاتحة: 7 ) أي: مننت عليهم بالهداية والتوفيق، قال عكرمة: مننت عليهم بالثبات على الإيمان والاستقامة، وهم الأنبياء عليهم السلام، وقيل: هم كل من ثبته الله على الإيمان من النبيين والمؤمنين. وقال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن يغيروا دينهم، وقال عبدالرحمن: هم النبي ومن معه، وقال عبدالرحمن بن زيدان: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وقال شهر بن حوشب: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته. الهداية والتوفيق وجاء في تفسير القرآن للدكتور مصطفى العدوي: قال تعالى: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»، المنعم عليهم فُسروا في سورة النساء بقوله تعالى: «فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا» (النساء: 69 )، وقوله: «أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» أي: بالهداية والتوفيق، وكذلك أنعمت عليهم بعموم نعمك.. ولقد بيّن لنا الله تعالى هذه الفئة المحببة إلى الله، وإلى قلوب العباد في قول سبحانه وتعالى في سورة مريم: «أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا» (مريم: 58) ويقول الطاهر بن عاشور في تفسيره المعروف باسم «التحرير والتنوير» حول معنى «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»: «إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» دون بقية أوصافه، تمهيداً لبساط الإجابة، فإن الكريم إذا قلت له: أعطني كما أعطيت فلاناً كان ذلك أنشط لكرمه، والنعمة- بالكسر وبالفتح- مشتقة من النعيم، وهو راحة العيش وملائم الإنسان والترفه، والنعمة الحالة الحسنة، لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذات الحسية، ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع، ولو لم يحس بها صاحبها. فالمراد من النعمة في قوله: «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» النعمة التي لم يشبها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سوءاً، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة، وهي الأهم، فيشمل النعم الدنيوية، الموهوبي منها والكسبي، والروحاني والجثماني، ويشمل النعم الأخروية.«والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيوي وإلى الأخروي كله ظاهرة فيها حقيقة الهداية، ولأن الموهوب في الدنيا، وإن كان حاصلاً بلا كسب، إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وهب لأجله». طريق الإسلام فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة، ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذٍ، فيكون في إبدال صراط الذين من الصراط المستقيم معنى بديع، وهو أن الهداية نعمة وأن المنعم عليهم بالنعمة الكاملة قد هُدوا إلى الصراط المستقيم. والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة. وطريق المنعم عليهم فيما مضى هو دين الإسلام الذي جاء من بعد، باعتبار أن الصراط المستقيم جارٍ على سنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى، فسألوا ديناً قويماً يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها، أو المراد من المنعم عليهم الأنبياء والرسل، فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كانت عليه أممهم، ولذلك وصف الله كثيراً من الرسل الماضين بوصف الإسلام، وقد قال يعقوب لأبنائه: «فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ» (البقرة: 132 )، ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس، لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك، ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات، وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية، وسواء فسرنا المُنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أتباعهم أو المسلمين السابقين فالمقصد الهداية إلى صراط كامل، ويكون هذا الدعاء محمولاً في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانه، والتي لم تبلغ إلى نهايتها. النعمة الكبرى وقال د. عبدالله الجلالي في تفسير قوله تعالى: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»: «المراد بالذين أنعم الله عليهم: هم المؤمنون، فالله عز وجل أنعم على المؤمنين بالإسلام، وأضل الكافرين عن هذا الطريق.. وهذه ليس المراد بها نعمة المادة فقط التي يسألها ويطلبها ويسعى إليها كثير من الناس، فنعمة الإسلام هي أكبر نعمة، وأكبر ما من الله عز وجل به على واحد من الناس أن هداه لهذا الدين، ولذلك أخبر الله عز وجل فقال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: أنعمت عليهم بالهداية، وأنعمت عليهم بالتوفيق، وقد ضل عن هذا الطريق أناس كثر، وأخبر بأن هؤلاء الذين هداهم الله عز وجل هم الذين أنعم الله عليهم، كما قال الله عز وجل في سورة النساء: «فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ» (النساء: 96)، أي: نعمة الهداية في الدنيا، ونعمة الجنة والدرجة العالية في الحياة الآخرة، ولذلك قال الله عز وجل: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، أي: نعمة سابغة، وهي أعظم نعمة، فنعمة المال والأهل والولد كل هذه في الحقيقة تعتبر نعمة، لكنها وإن كانت نعمة في الحقيقة إلا أنها نعمة دون النعمة الكبرى، فالنعمة الكبرى هي هداية الإسلام، وما أنعم الله عز وجل على أحد أفضل وأكثر مما أنعم به في الهداية إلى الإسلام».