كان عصر الطغاة يُعطي ويُردي جاء عصرُ الغزاة يُردي ويَسلبْ تذكرت هذا البيت لشاعر اليمن الأكبر عبدالله البردوني حين سمعت خبر تجميد أموال الجمعيات الأهلية !! تذكرت أيضاً _ فيما تذكرت _ تاريخ (الوقف) عند المسلمين .. والذي يمكن اعتباره البذرةَ الأولى لما يُسمى بـ مؤسسات المجتمع المدني الحالية . وتستطيع إدراك مدى اهتمام المسلمين بالوقف والأوقاف حين تعرف أن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أوقف مدينة بلبيس كلها على فك أسرى المسلمين الذين أسرهم الصليبيون في حملتهم على مصر سنة 564ه .. كما أوقف ثلت ناحية (سندبيس قليوبية) و(نقادة قوص) على مرتبات أربعة وعشرين خادماً يعملون في خدمة المسجد النبوي الشريف !! ولك أن تتخيل أنني _ حين تعمقت قليلاً في قراءة تاريخ الوقف في مصر والشام خاصة _ جال بخاطري أن مكان بيتي الذي أسكن فيه ربما كان في يوم من الأيام الغابرة وقفاً لعملٍ خيري ما !! لقد طال الوقفُ كلَ شيء في بلاد المسلمين .. مساجد ، مدارس ، دور ، بساتين ، قرى بأكملها ، حمامات عامة ، خيل ، سلاح ، آبار ، عروض تجارة .. إلخ إلخ ولأن مصر بلد مبتلى بالحكام المستهبلين ؛ فقد أراد الظاهر بيبرس _ على ما فيه من خير _ أن يستهبل فيستولي على الأوقاف وأموالها بحجة محاربة التتار ، فتصدى له الإمام النووي رحمه الله حتى كف بيبرس عن الاستهبال !! هذا لا يعني أن الحكام والأمراء كفوا عن الاستهبال بعده أو قبله .. فاستهبال الحكام _ كما تعلمون _ لا ينفد ولا يُستحدث من عدم !! والأزمنة لا تجود _ كثيراً _ بأمثال النووي والعز بن عبد السلام رحمهما الله . ونحن نعرف أنه أينما وُجد (قاضيان في النار!!) وُجد حاكمٌ مستهبل .. فإن لم يوجدا استنبتهما استنباتاً !! وقد أحسن المستهبلون من الحكام استخدام قضاة السوء في التبرير لسرقاتهم .. كما أحسنوا استخدام كلاب العسكر في تنفيذ هذه السرقات . والحديث عن سرقة الأوقاف ونهبها في التاريخ أشبه بوقوعك في مستنقع عفن ذي دركات ، كلما ظننتَ أنك خرجت من دركة ، سقطت في أخرى أعفن وأقذر .. منذ الدولة العباسية التي (أَعْطَتْ وأَرْدَتْ) .. إلى الدولة السيسية التي (أَرْدَتْ وسَلَبَتْ) .. مروراً بلص الأوقاف الأكبر محمد علي باشا وتلميذه الذي تفوق عليه في اللصوصية جمال عبد الناصر !! .. (وكله بالقانوووووووون) .. (وتسلم الأيادي!!) دعك من التاريخ والأزمنة الغابرة .. سأحدثك عن الحاضر والأزمنة المغبرة التي نعيشها !! أسرةٌ في قرية في صعيد مصر ، مكونة من أب وأم وخمسة أطفال ..يسكنون بيتاً مكوناً من غرفةٍ واحدة بأربعة جدران مهدمة لا سقف لها إلا سعف النخل وجريده .. في الشتاء : يصبح هذا الشيء _ الذي يسمى مجازاً بيتاً _ خزانَ ماء يمسك ماء الأمطار ؛ لتتحول أرضيتُه الطينية _ التي لا تزيد عن ثلاثة أمتار في أربعة _ إلى وحل كامل .. أما في الصيف فيتحول إلى فرنٍ مشتعل يستقبل سياط الشمس اللاهبة ليجلد بها ظهور ووجوه سبعة أنفس بشرية .. وليس بغلة عثرت في العراق !! أرجو ألا تشطح بخيالك كثيراً .. فتتساءل عن (دورة المياه!!) .. قلت لك : هي غرفةٌ واحدة لا سقف لها .. المرحاض هنا رفاهيةٌ من المضحك السؤال عنها !! قامت جمعية خيرية بشراء ربع قيراط أرض ثم بنت لهذه الأسرة بيتاً مكوناً من غرفتين بمنافعهما ، وأدخلت المياه والكهرباء للبيت .. ثم سلمت البيت لرب الأسرة .. جاءت حكومة الانقلاب فجمدت أموال الجمعية .. ومعها أكثر من ألف جمعية أهلية أخرى !! لك أن تتخيل مئات الآلاف من الأسر الشبيهة .. علاوة على الفقراء والمرضى والمعوزين والطلبة والعجزة ومن لا عائل له أو لها .. وحال المنشآت المرتبطة بهذه الجمعيات من مستشفيات ، ومدارس ، ومستوصفات ، وبيوت مفتوحة ، ومشاريع صغيرة ، ووحدات طبية متخصصة في المستشفيات ، وبنوك طعام وكساء ، ومشاريع عملاقة تخدم الفقراء وذوي الحاجة في كل مناحي الحياة !! أنت الآن تعيش أكبر عملية نهب في تاريخ مصر الحديث .. خاصة إذا صدق الخبر الذي نشره أحد النشطاء المهتمين بمؤسسات المجتمع المدني منذ شهر تقريباً ، وذكر فيه أن جهاتٍ مرتبطة بالعسكر تعمل على قدم وساق في إشهار عدد ضخم من الجمعيات الأهلية بقيادة لواء لكل جمعية وبمقرات كثيفة في أنحاء الجمهورية ومناطقها العشوائية !! إياك أن تتحامق _ كشعب تسلم الأيادي _ فتصدق أن هذا تجفيفٌ لمنابع الإرهاب الاقتصادية !! .. هذا نهب واضح ومكشوف لجأ إليه الانقلابيون لإطالة أمد الانقلاب الذي فَلَسَ الدولة ، وللي ذراع الرافضين له ، ولإذلال الشعب المصري والسيطرة عليه برغيف الخبز .. ولهم فيه _ بعد ذلك _ مآرب أخرى !! هؤلاء ليسوا أكثر من مماليك جدد .. ومن انطلق _ في دراسة أفعالهم _ من منطلق الدولة ، سيكون كالذي يندب في حفل عرس أو يرقص في بيت عزاء !! .. وهم قاب قوسين أو أدنى من السقوط .. لأن الله إذا كره عبداً سلط عليه عقلَه .. فأورده موارد الهَلَكَة !! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.