×
محافظة المدينة المنورة

ابن أخ وليد باخشوين على درب عمه

صورة الخبر

رائحة الأمهات رابعة الختام دائماً أقول أنا لا أشبه أمي، وابني لا يشبهني، وأمي تختلف عن أمها، فلا أحد يشبه الآخر بالتأكيد، ولكل جعل الله سبحانه وتعالى شرعة ومنهاجاً. كثيرون هم البشر، ومعقدة حكاياتهم وقصص نسجت حول البعض منهم، ونسجها آخرون بأنفسهم، فلا مخلوق يشبه غيره تماماً ولا نسخة تلد مثلها على مستوى البشر، الجميع يحمل بصماته هو ويرسم صورته وحده دون غيره. لكنني أيقنت بخطأ اعتقادي كليا، فعلى الرغم من كوننا لا نشبه بعضنا البعض إلا أننا نحمل بعض صفات ممن هم حولنا، فأنا أحمل رائحة أمي في جميع تصرفاتي، رضيت أم أبيت، صوتي يشبه صوتها، وفي عينيّ شيء من بريق عينيها يلمع في مرآتي كلما نظرت لأبعد من ملامحي، كلما اخترقت روحي وثقبت في نفسي ثقباً يطل على ما هو أقرب إلى كائن يسكن النفس. بعض تصرفاتي وردود أفعالي مع أبنائي تشبه ما كنت أنكره على أمي، نفس نظرة اللوم الموجهة قصداً بعد كل عصيان لأوامرها، رفضها المتكرر لرحلات مدرسية أو رحلات جامعية مشتركة، خوفها الشديد وحرصها وتحفظها على الكثير من الصديقات حد قطيعتي مع بعضهن، وتمسكها بالبعض الآخر، نفس تساؤلاتها أكررها بنفس النمط واللفظ وحركة اليدين المصاحبة لكل فعل. تسكنني أمي وتسكن أمي روح جدتي وتقبع بعض ملامحي وصفاتي في سلوك أبنائي، وهكذا دائماً تفوح رائحة أمهاتنا من نفوسنا. حدثتني صديقتي عن أمها الراحلة التي عذبتها كثيراً في فترات طفولتها ومراهقتها وصباها حتى مرحلة شبابها، بسبب تصرفاتها التي كانت تصفها الأم بأنها غير واعية، وغير مسؤولة وتجلب المزيد من المتاعب والمشكلات، نعت أمها بعد رحيلها وبكتها طويلاً فقد أدركت حين صارت أماً أنها ترعى أطفالها بذات الطريقة وتتعامل معهم بنفس درجة الحرص والخوف، تقبل ما كانت تقبله أمها مضطرة تحت ضغط البكاء المستمر والمتواصل من الصغار، وترفض جل ما كانت ترفضه أمها، تتحدث وتضحك، تحب وتكره، تخاف وتتزمت، تنصت وتتنصت، تتماهى مع أمها حتى نغمات الصوت ونون الحديث، وإصبع السبابة الموجه دائماً محمل بإشارة رفض مسبق، قيود أمها الخانقة تستعملها كاملة دون نقصان. أدركت مؤخراً أنني أدور في فلك أمي، أحب أولادي بطريقتي الخاصة ولا يمكنني أن أحبهم بطريقتهم هم، أخاف عليهم بطريقتي أنا وكما يروق لي، ولا يمكنني سماع مبرراتهم لأفعال أرفضها. لم أتوقف يوماً لتذكر رفضي لأسلوب أمي في حبي والخوف علي ولكنني تذكرت كلمتها الدائمة “حين تصبحين أماً ستعرفين ما أفعله وتقدرين مشاعري”، كل يضخ تجربته ويبث مخاوفه ويصبح فريسة لقلقه وحبه. على الرغم من تغير الظروف الحياتية وانقلاب موازين الأشياء كثيراً فقد أصبحنا في ظل ثورة المعلومات وطرق التواصل الكثيرة من حولنا أقرب، تلك الثورة التي قربت البعيد وأباحت ما كان بالأمس مرفوضاً، إلا أن الأم ستظل أماً، تحب بشكل مختلف وتخاف بطريقتها الخاصة ويظل الأبناء يتأففون من هذا الحب الذي يصفونه بأنه خانق ويرددون “أنت قديمة جداً”. سنظل أشبه بالمكابح التي لا يشغلها سوى فرملة أي انطلاقة وأي مغامرة غير محسوبة وكلما زاد حبنا وشغفنا زاد حرصنا على الضغط على المكابح بقوة، لا أملك تبريراً لتصرفاتي وخوفي إلا ترديد مقولة أمي “حين يكون لديكم أبناء ستقدرون مشاعري” ولا أملك رداً على من ينتقدني إلا “شقوا قلبي لترون مكانكم بداخله”. أستمع لقصيدة الشاعر الشاب عبدالله حسن وتنهمر دموعي “أنهاراً” حين يقول “الزمن خلاني جاحد والسنين غمت عينيا”، يضحك أبنائي من بكائي، لكنني أسمع بقلبي ومشاعري، أردد كلماته الجميلة والمعترفة بفضلها “الأساس هي ولولاها كان زماني زرعة مايلة”، أقولها لأبنائي ليتهم يعرفون ولكنني أدرك أنها مرحلة عمرية لها متطلباتها وإيجابياتها وسلبياتها، وحتماً سيدركون يوماً ما قيمة الأشياء. كاتبة من مصر باهر/12