ليس الإنسان الذي يستخدم التقنية في وسائط التصوير والنشر والتداول هو من تغيِّبه التقنية وتستخدمه وحسب، بل ومن يكون موضوعا لتصويرها أيضا لا نفكر في الصور ومقاطع الفيديو التي تطفح بها تطبيقات التواصل في هواتفنا المحمولة وأجهزتنا الأخرى، إلى موقع آلة التصوير من الحدث الذي نراه، أو إلى تقنية الاتصال ووسائطه التي تتيح لنا التصوير والمشاهدة والإرسال والتحويل. نصوِّر ما نصوِّر من أحداث ووقائع ثم نرسلها إلى من نشاء أو نرفعها على تطبيقات التواصل، أو نتلقاها عبر أجهزتنا ثم نحولها إلى الآخرين... إلخ، وفكرنا في أثناء ذلك منصبٌّ على المحتوى المسجَّل، لا يلتفت إلى التقنية التي نحملها أو نضغط على أزرارها لفعل ذلك. وبالطبع ليست التقنية هي من يصوِّر ويرسل ويتلقى، بل الإنسان الذي يصنعها، والذي يمتلكها بماله، ويحملها بيده، ويضغط على أزرارها بأصابعه ويشاهد محتواها ويتبادله مع غيره. فإذا لم نلتفت إلى التقنية التي تفعل ذلك، فنحن في الحقيقة لا نلتفت إلى الإنسان الذي ينتجها ويستخدمها. ولهذا دلالة خطيرة؛ فغياب الإنسان وراء التقنية يرجع إلى التقنية نفسها، التي صنعها الإنسان وامتلكها واستخدمها، فعادت تستخدمه وتمتلكه وتصنعه، وفي النهاية تنتقص وجوده الحق؛ وجوده بوصفه إنسانا بقلب وعقل وضمير، وتحجبه وتغيِّبه. وأول ملامح غياب الإنسان في ذلك، غياب التعاطف؛ فالتصوير لمشاهد الفجيعة والكوارث والوحشية، مثل التصوير للأفراح والليالي الملاح، كلاهما يحيل الأصل إلى صورة، والواقع إلى تمثيل، ويجمِّد الحياة ويشيِّئها حالَمَا يفصلها عن لحظتها ويعزلها عن مكانها. المطر الغزير الذي سالت منه الشعاب، يأخذ في مقطع من مقاطع الفيديو المتداولة زاوية التصوير لمنطقة العبور بين ضفتي أحد الأودية، حين تعبر سيارة تحمل أطفالا في سن المدرسة، فيقلبها السيل ويصعد الأطفال على سطحها في ذعر، والسيل يَقْوى ليجرفهم... يسمع المشاهد للمقطع، الحديث المتداول من جهة الشخص الذي يقوم بالتصوير والذين حوله، وكأن أحدا لا يواجه الموت على بعد خطوات أمامهم! لم تُنْس رهبة المشهد المصوِّر التصوير، ولم تلهه عنه. كان حريصا على التقاط الفجيعة وبثها! في مقاطع أخرى يقوم المصوِّر بنفسه بصناعة المشهد الصادم، وذلك بممارسة القتل أو التعذيب بشكل وحشي على قط أو كلب أو ثعلب أو حمار... وفي أثناء ذلك يصوِّر فعلته، أو يأمر من يقوم بالتصوير ويدلي بالتعليمات إليه، ويبث التسجيل على جماهير الوسائط! ولم يعد عجيبا –في هذا السياق- أن يلتقط أحد الآباء «سلفي» عند رأس ابنه الذي يغط في غيبوبة في غرفة العناية المركزة، من جراء حادث أليم، ثم يضعها على حسابه في «الفيس بوك»، مصحوبة بالإخبار عن الحادث. كأنه لا يجد حزنا على ابنه أو أي انشغال بهذا المعنى يمنعه من المشاركة بصورة تستوقف جمهور الوسائط الذي يقف على الصور أكثر ما يقف! مقاطع أخرى تنتزع الالتفات إليها بالتقاط غفلة «شايب» وتخريفه أو هذيان عجوز، وأخرى تستعبد براءة الطفولة، وأخرى... إلخ، مستلذة بالرغبة في التصوير والمشاركة في الوسائط واستيقاف المُشاهد للفرجة، دونما اكتراث بأن الكائن في الصورة هو وحده من يملك الحق في أخذها ونشرها، والإذن بذلك. التقنية هكذا، ممثَّلة في وسائط التصوير والنشر والتداول، ليست محايدة، وليست مسخَّرة لإرادة الإنسان وفعله الخيِّر أو الشرِّير. كلا، إنها –كما وصفها هايديجر- «تحدِّد علاقة الإنسان مع ما يوجد... إنها قوة تتجاوز إرادة الإنسان ومراقبته» و«جوهرها ليس إنسانيا». الإنسان الذي يقوم بالتصوير مستلَب من قبل تقنية التصوير بوصفها آلة تسجيل للصُّوَر وبث لها. إنه ينسى عواطفه ومعقوليته وذاته، تحت وطأة حضور التقنية التي تفقده تلك العواطف والمعقولية والذات، وتحل في محلها. ما نشاهده مصوَّرا في الوسائط هو نتاج التقنية فيها، ونحن نتوهم أنه نتاج إرادة الإنسان وفعله بها. التقنية بوصفها كيفية وجود هي التي تطلَّبت الوقائع المصوَّرة؛ هي التي جعلت الإنسان يرى ذاته ويتعرف عليها في هذه الوسائط لا في الوجود الحقيقي... وهذا ما جعل «ماكس فيبر» ينعت التقنية بأنها «قفص حديدي» يغيب الإنسان وراء قضبانه. ليس الإنسان الذي يستخدم التقنية في وسائط التصوير والنشر والتداول هو من تغيِّبه التقنية وتستخدمه وحسب، بل ومن يكون موضوعا لتصويرها –أيضا- حين تحيله –من دون رغبته أو برغبته- إلى شيء للفرجة، إلى صورة ووهْم، كما هو كل موضوع للفرجة، يبتعد عن ذاته بقدر ما يغدو ناظرا أو منظورا إليه. وإذا كان غياب التعاطف وجها من وجوه فعل التقنية في تغييب الإنسان وانتقاص إنسانيته، فإنه لا ينفصل عن وجه آخر يتمثل في «العُزلة» التي تفرضها التقنية على الإنسان، على الرغم من وهْم التواصل والوسائط والأداتية، ونحو ذلك مما يلحق تسميتها وينعت فعلها في التقريب بين الأفراد والمجتمعات الإنسانية. ولقد كان الزمن مبكرا حين تنبَّه أدورنو وهوركهايمر، رائدا مدرسة فرانكفورت النقدية، في كتابهما «جدل التنوير» الذي نشراه عام 1944، إلى ما وصفاه بـ«العزلة من خلال المواصلات». فتحدثا عن منع الراديو للكلام، وحيلولة السيارات الخاصة دون اللقاء بين الناس، وفَرْضها العزلة بين الواحد منهم والآخر. وبوسعنا الآن، أن ننظر إلى الهاتف المحمول الذي يحمل في جوفه وسائط التواصل الاجتماعي وغيرها من التطبيقات، بالمنطق نفسه. فهو ليس أداة تواصل بقدر ما غدا أداة تفاصُل وعُزلة بين الأفراد، حتى بين أولئك الذين يجمعهم مجلس واحد أحيانا، حين يعكف كل منهم أو بعضهم على هاتفه. وهي عزلة تتضاعف بين المرء وذاته، وبينه وبين ذويه وأصدقائه؛ لأن الهاتف المحمول يجمِّد، بالأفعال الممارسة فيه وبه وعَبْره، هذا التواصل ويشيِّئه ويفرض عليه التماثل. وكما تستبدل الرسائل والنصوص والصور والتسجيلات الإلكترونية الواقع الافتراضي بالواقع الحي، فإن الهاتف المحمول يكبِّل وجود الإنسان الذي يحمله ويعزله عن وجوده، بعد أن حلَّ محل الوجود وحال بين الوجود وبين الموجود أو كاد. وليس لأحد أن ينكر فضل التقدم التقني في المدنية والرفاه، ولكن هذا التقدم ذاته، إذ يتطلب عقلا منتجا له يتطلب بالقدر نفسه عقلا ناقدا لمنتجاته، كي لا تعاكس غايات التقدم المرجوة. وأول ما يترامى إليه النقد، في هذا الخصوص، أن يتحرر الوجود الإنساني من الاستلاب والمكننة واللامعقولية، وأن يزداد الكشف عنه وإثراؤه بالمعنى. وإذا كان التواصل قيمة إنسانية مكينة، فسيكون فارغا من المعنى ما لم تحكمه غايات أخلاقية. والوعي الذي يترامى النقد إلى إحداثه مهم، ولكنه غير كاف؛ فلابد من البحث عن سبيل ناجع في الحماية من التقنية، ويتمثل –في شأن وسائط الاتصال- في ترسيخ قوانين ضد المناظر الوحشية ونحوها، وقوانين تنبع من حق كل شخص في امتلاك صورته؛ فصورة الإنسان التي تُنشَر على الوسائط، سواء ابتعثت ضحكنا منه، أو رثاءنا له، أو تعجبنا منه، أو غير ذلك، أو لم تبتعث شعورا منا تجاهه، ليست حقا لنا إلا بإرادته، ومن حقه أن يطالب بالتعويض عن نشر صورة له التُقطت أو نُشرت من دون موافقته، وتسببت في تحوله إلى فرجة مجانية عبر وسائط التواصل.