بانتظار تبلور صيغة ما لسياسة إدارة الرئيس دونالد ترامب الخارجية في الشرق الأوسط بين وزيري دفاعه وخارجيته ومستشاره الجديد لشؤون الأمن القومي، علها تساهم في ضبط إيقاع الأحداث، ستواصل رمال المنطقة المتحركة إفراز تحالفات تتبدل وتتجدد بسرعة حركة تلك الرمال. وليس هناك أدل على تحالفات كهذه من تلك التي تحدث إزاء الوضع في سورية. فحجم الحدث تاريخي الأبعاد بامتياز في مستوييه المحلي والإقليمي، وهو غير مألوف، لا للمؤرخ ولا لقارئ التاريخ منذ الحقبة العثمانية، إذ لم تعرف المنطقة هذا التنوع والتجدد في التحالفات والتحالفات المضادة عملياً إلا منذ منتصف الخمسينات. وهناك أمثلة كثيرة لعل أبرزها ما عرف بـ «حلف بغداد» لعام 1955 أو منظمة معاهدة الشرق الأوسط (ميتو)، أو منظمة المعاهدة المركزية (سينتو) لاحقاً. والتحالف ضم إيران وتركيا والعراق وباكستان وبريطانيا الإمبريالية حينذاك، في مواجهة المد القومي العربي الشعبوي الناهض بقيادة زعيم مصر الراحل جمال عبدالناصر والتوسع السوفياتي السريع في المنطقة. ولكن، سرعان ما بات «حلف بغداد» أمراً من الماضي بعد ثلاث سنوات، إثر إطاحة الملكية الهاشمية في العراق بانقلاب عسكري دموي في تموز (يوليو) 1958 بقيادة الجنرال عبدالكريم قاسم وبمشاركة فعالة للحزب الشيوعي العراقي ودعم موسكو الكامل. في ذلك العام، تغيّر اسم الحلف من ميتو إلى سينتو. هذا الأخير بات أمراً من الماضي الغابر أيضاً بعد خروج إيران منه إثر ثورة 1979 وإطاحة حكم الشاه. لكن السينتو في الحقيقة أصبح غير فعال في صيف 1974 إثر الغزو التركي لشمالَ جزيرة قبرص ذي الغالبية التركية، رداً على إطاحة حكم الأسقف مكاريوس بانقلاب عسكري نظمه ما عرف بـ «حكومة الكولونيلات» في اليونان وتنصيب اليوناني الشعبوي المتطرف نيكوس سامبسون مكانه، وإعلان قيام الجمهورية الهيلينية في قبرص. والهدف من الانقلاب كان في النهاية ضم الجزيرة إلى اليونان. حكم الكولونيلات انتهى بعد أشهر قليلة إثر تنظيم أول انتخابات مدنية حرة في اليونان في تشرين الثاني (نوفمبر) 1974. في المناخ السياسي الراهن شهدنا قيام تحالف مفاجئ حول سورية بين خصوم الأمس بتقارب روسيا لأول مرة مع كل من تركيا وإيران. وأفضل ما يمكن أن يتصف تفاهم الخصوم به هو زواج الضرورة، لأن لكل من الأطراف الثلاثة أهدافه الخاصة به من تقاسم النفوذ في خضم المأساة السورية. فإذا قيّض لـ «حلف بغداد» أن يستمر ثلاث سنوات، فهذا الزواج الثلاثي الراهن قد ينقضي أو يتغير خلال أسابيع أو أشهر قليلة ريثما تتبدى معالم سياسة ترامب الخارجية. فالنقطة التي تلتقي فيها مصالح الأطراف الثلاثة راهناً معرضة للتغير في أي لحظة في المستقبل المنظور، نظراً إلى التباين الشاسع في الأهداف الاستراتيجية لكل منها. فسورية بالنسبة لروسيا على سبيل المثل، باتت ساحة مفتوحة أمام قواتها، لا سيما في ظل غياب شبه تام للقوة الكبرى الوحيدة في العالم عن شؤون المنطقة الرئيسية. في ظل الفراغ الراهن، منحت موسكو نفسها سلطة أمر واقع في حرية الحركة كيفما تشاء. وقد تمكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بذلك من تحقيق حلمه في الوجود في مياه الأبيض المتوسط، أكان في قاعدة بلاده البحرية في طرطوس أو في قاعدتها الجوية في مطار حميميم القريب من مدينة اللاذقية، محققاً بذلك سيطرة كاملة على شريط سورية الساحلي وامتداده اللبناني إذا لزم الأمر. وحرصت موسكو أخيراً على تمديد الاتفاقية العسكرية مع حكومة بشار الأسد لضمان بقاء قواتها في القاعدتين السوريتين لمدة خمسة عقود مقبلة على الأقل. ولا شك في أن النفوذ الإيراني مباشرة من خلال القوة العسكرية والسياسية لـ «حزب الله» المتفوق على الجيش الوطني قوةً، ووجود رئيس جمهورية متفهم لهذه الحالة يعززان السيطرة الروسية. أما من ناحية تركيا في ضوء التحول غير المسبوق في ميزان القوى في المنطقة، فيجد الرئيس رجب طيب أردوغان نفسه في أحضان موسكو، رغب في ذلك أم أبى. وليس المستنقع السوري بالضرورة هو الذي دفع الرئيس التركي نحو بوتين، لكنه الوضع الداخلي أولاً وأخيراً. فإضافة إلى الخضة الكبرى التي شكلتها أحداث الصيف الفائت بفعل تحرك جماعة الزعيم المعارض فتح الله غولن وما تلاها من حملة اعتقالات واسعة شملت عشرات الآلاف من ضباط الجيش وكبار موظفي الدولة، فقلق أردوغان الأكبر ناجم عن نهوض تحرك وطني كردي مستقل في جيبٍ شمال سورية يلقى دعماً أميركياً. فقد تغيرت الأولويات بالنسبة لأردوغان الذي لم يعد يرَى غير الحكم الذاتي في الجيب الكردي السوري كهدف له في حربه في سورية. وما دام هذا هو الهم الأول للرئيس التركي، فقد أجرى تعديلاً جوهرياً في سياساته السابقة أكان إزاء خطط الرئيس بوتين أو إزاء خطط إيران التوسعية في سورية وفي الإقليم في آن. من ناحية ثالثة، هناك إيران التي تبدو سياستها الخارجية في الإقليم خاضعة بالكامل لقيادة «الحرس الثوري». فمهما قيل عن رشد رئيس الجمهورية روحاني، فإن قيادته لا أثر لها عندما يتعلق الأمر بسورية أو بأي من شؤون الإقليم الأخرى. فصدمة الإقليم والغرب نتيجة سلوك طهران إثر توقيع اتفاق الملف النووي في 2015 كانت كبيرة للغاية. وبدلاً من تبني سياسة معتدلة تجاه المنطقة، يبدو أن الاتفاق شجع القيادة الإيرانية على توسيع رقعة نفوذها في طول الإقليم وعرضه بدءاً من العراق وسورية ولبنان وانتهاء بالساحة الخلفية لدول الخليج العربية في اليمن. والغريب في الأمر أن حكومة طهران تتبع هذا النوع من السياسات الصدامية القائمة على المغامرة وغير القابلة للحياة لفترة طويلة. ومن المؤكد أن هذه السياسات لن تستمر طويلاً، لأنها ستصطدم بسياسات روسيا أو تركيا، أو بالاثنتين معاً، عاجلاً أم آجلاً.