القرآن كتاب الله القويم، وحبله المتين، والذي أعجز العرب وهم سادة البلاغة والفصاحة يتضمن آيات قد تحتار فيها العقول، لما فيها من غموض. من هذه الآيات قول الله تبارك وتعالى في سورة الأنفال وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (الأنفال03). فمن هؤلاء الذين يمكرون برسول الله كل هذا المكر؟ وعلام كان مكرهم؟ وما قصة هذا المكر؟ وللإجابة عن هذا يقول السيوطي في مفحمات الأقران: وإذ يمكر بك الذين كفروا : سمي منهم - وهم المجتمعون في دار الندوة - عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان وطعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحرث بن عامر، والنضر بن الحرث، وأبو البختري بن هاشم، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل، وأمية بن خلف. إبليس ينصح!! ويقول البيضاوي في تفسيره أنوار التنزيل وأسرار التأويل: وإذ يمكر بك الذين كفروا تذكار لما مكرت قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في خلاصه. من مكرهم، والمعنى واذكر إذ يمكرون بك. ليثبتوك بالوثاق أو الحبس، أو الإثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح، وقرئ ليثبتوك (بالتشديد) و ليبيتوك (من البيات وليقيدوك). أو يقتلوك بسيوفهم. أو يخرجوك من مكة، وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم اجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً فقال: أبو البحتري: رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت، فقال: الشيخ بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم، فقال: هشام بن عمرو رأيي أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع، فقال: بئس الرأي يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً صارماً فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فإذا طلبوا العقل عقلناه. فقال: صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر وأمره بالهجرة، فبيت علياً رضي الله تعالى عنه في مضجعه وخرج مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار. ويمكرون ويمكر الله برد مكرهم عليهم، أو بمجازاتهم عليه، أو بمعاملة الماكرين معهم بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا. والله خير الماكرين إذ لا يؤبه بمكرهم. سيد المتقين ويقول عبد الكريم يونس الخطيب في تفسيره المعروف باسم التفسير القرآني للقرآن: قوله تعالى: [وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ] الواو، هنا للاستئناف.. والخبر الذي بعدها مستأنف.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن تقوى الله تعين الإنسان على اجتياز الصعاب، ومغالبة النزعات، واحتمال الأرزاء ـ أي المصائب ـ وقد كان هذا هو موضوع الآية السابقة. وفى هذه الآية، المثل الكامل في التزام طريق الحق، حيث يتصدى النبي صلى الله عليه وسلم - وهو سيد المتقين- لما يسوق إليه المشركون من ألوان البلاء، وما يرمونه به من صنوف الإعنات والكيد، فيتلقى ذلك صامداً صابراً، لا يثنيه الإغراء، ولا ينهاه الوعيد، حتى ليلقى قومه بتلك الكلمة الحاسمة الفاصلة، حين عرضوا عليه ما عرضوا من مال وسلطان: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه!! فقد صمد النبي الكريم أمام تلك الفتن العاصفة ولم ينحرف عن طريقه القويم قيد شعرة. آية كاشفة ومن مكر الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ما كشفه الله تعالى في تلك الآية، وهو أنهم أرادوا به أكثر من شر، فإما أن يثبتوه، أي يفسدوا عليه أمره، ويعجزوه عن القيام بدعوته. أو يقتلوه إن هو أبى إلا أن يمضي في طريقه، ويستمر في دعوته، وأعجزتهم الوسائل المتاحة لهم عن الإمساك به.. وإما أن يحملوه على أن يخرج من بينهم، ويترك موطنه الذي نشأ فيه.. هذا كان مكرهم، وذلك كان كيدهم. وقد أبطل الله هذا المكر، وأفسد هذا الكيد.. فجاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أرادوا وقدروا.. والمكر: التدبير للأمر، وأخذ الوسائل المحققة له وقد يكون المكر شراً، حيث يراد الضلال، وقد يكون حسناً، إذا أريد به إحقاق حق، أو إبطال باطل. لقد حملوه على أن يهاجر من بينهم، ففاتهم بذلك حظهم من نور الله، الذي جعله الله إلى قوم هم أولى به وأحق منهم ثم إن من دخل منهم في الإسلام من بعد هذا، لم يكن في المنزلة التي أخذها الذين سبقوا إلى الإسلام وهاجروا، أو أولئك الأنصار، الذين آووا وناصروا.