تبلغ آيريس سيبلي 89 سنة. قلة في عمرها يمكن أن يحتلوا صدارة الأخبار في بريطانيا. لكنها فعلت ذلك، وبجدارة. فقد أثارت قصتها جدلاً لا ينتهي في وسائل الإعلام وبين السياسيين حول الأزمة الخطيرة التي يعانيها قطاع الرعاية الاجتماعية في هذا البلد. هذه قصتها باختصار. دخلت آيريس مستشفى بريستول الملكي في غرب إنكلترا في حزيران (يونيو) الماضي. جاءت لتلقّي علاج من عارض صحي أصابها. عاينها الأطباء، وعلى رغم إصابتها بأعراض الخرف إلا أنهم أعطوا الإذن بإخراجها من المستشفى ونقلها إلى مأوى للعجزة. وهنا بدأت القصة فعلياً. مرّ شهر وآيريس في سريرها في المستشفى تنتظر نقلها إلى بيت العجزة. ثم مر شهر ثان، وثالث، ورابع، وخامس … وسادس. بعد ستة شهور، تمكن جهاز الرعاية الصحية مطلع هذه السنة من إيجاد مأوى يستقبلها ويلائم حاجاتها، فانتقلت إليه وتعيش فيه حالياً بسعادة. لكن سعادة آيريس جاءت مكلفة. فقد دفع قطاع الصحة العام في بريطانيا 80 ألف جنيه للعناية بها طوال الشهور الستة التي قضتها في مستشفى بريستول، وهي فترة لم يكن من ضرورة صحية لها مطلقاً كون الأطباء أعطوا إذناً بإخراجها منه. أثارت قضية آيريس ضجة كبيرة في وسائل الإعلام التي ركّزت على التكاليف الضخمة التي تكبّدها قطاع الصحة بلا مبرر (يمكن بـ80 ألف جنيه شراء شقة صغيرة في بعض مناطق بريطانيا)، وعلى الوضع المزري الذي يعانيه قطاع الرعاية الاجتماعية الذي عجز على مدى ستة شهور عن إيجاد مأوى ملائم لآيريس. وسلّطت جميعة «أيج يو كي» التي تُعنى بالعجزة في بريطانيا، الضوء على هذه الوضع المزري في تقرير صدر قبل أيام وخلُص إلى أن الوقت «ينفد (أمام جهود) إنقاذ نظام الرعاية الاجتماعية بكبار السن». وأورد إحصاءات تشير إلى «التحديات الضخمة التي تواجه كبار السن ممن هم في حاجة للمساعدة. فواحد من بين كل ثمانية أشخاص من هؤلاء ممن تجاوزوا 65 سنة ويحتاجون إلى المساعدة، يعيش حالياً من دون تلبية متطلّبات الرعاية التي يحتاج إليها»، مشيراً إلى أن عدد هؤلاء يبلغ 1.2 مليون شخص من كبار السن. وبعدما أشارت الجمعية الخيرية في تقريرها إلى أن «فشل نظام الرعاية أوجد عبئاً على المستشفيات وعلى العائلات» التي ينتمي إليها كبار السن المحتاجين إلى الرعاية، دعت الحكومة إلى تأمين مخصصات مالية بسرعة لإنقاذ هذا القطاع من خطر الانهيار كلياً. وليس واضحاً مدى قدرة حكومة المحافظين الحالية على ذلك في ظل سياسات التقشّف التي تعتمدها منذ سنوات، والأوضاع الاقتصادية الخطيرة التي تواجهها البلاد جراء قرارها الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ويكلّف الاعتناء بمسنّ في مأوى للعجزة قطاع الرعاية الاجتماعية ما بين 800 و1200 جنيه في الأسبوع الواحد، وهو رقم يدل على ضخامة التكاليف التي تتكبّدها الدولة، وبالتالي دافعو الضرائب، من أجل العناية بهذه الفئة. والأرجح أن يزداد العبء أكثر على قطاع الرعاية الاجتماعية، كون البريطانيين باتوا في الإجمال من المعمّرين. ولكن في حين تركّز معظم الجدل في بريطانيا في قضية آيريس على تداعيات فشل قطاع الرعاية الاجتماعية في مهمته المتمثّلة بالرعاية بالعجزة، لم يجرؤ سوى قلة من الإعلاميين على طرح هذه المشكلة من منظور مختلف. فبدل تناول القضية من منظور مسؤولية الدولة، طرحها بعضهم من منظور مسؤولية الأهل عن الاعتناء بأفراد أسرهم ممن يتقدّمون في السن. فآيريس، كما أشار هؤلاء، لم تكن عجوزاً «مقطوعة من شجرة»، بل لديها عائلة كبيرة تضم أبناء وأحفاداً. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، تساءل معلّقون عن السبب الذي دفع أفراد أسرتها إلى تركها ممددة في سريرها بالمستشفى طوال ستة شهور، بدل أن يسارعوا إلى نقلها إلى منزل فرد من أفراد أسرتها الكبيرة. وربما كان سبب ذلك مرتبطاً بحقيقة أن الرعاية بها أسهل عندما تكون محوطة بأطباء وممرضين في المستشفى، إضافة إلى أن أفراد أسرتها ربما لا يستطيعون في الواقع الرعاية بها بسبب طبيعة أعمالهم، وعدم وجود مكان يمكن تخصيصه لها في منازلهم (لا سيما في ضوء إصابتها بالخرف). لكن مهما كانت هذه الأعذار المحتملة، فإن كثراً في مجتمعات أخرى، مثل الشرق الأوسط، ربما سيسارعون إلى انتقاد أسرة آيريس لأنها تركتها تلك الشهور الطويلة في المستشفى بدل الاعتناء بها في أحد بيوت عائلتها. قد يكون هذا الانتقاد مجحفاً بعض الشيء اليوم. لكن الحقيقة أن كثراً في المجتمعات المشرقية يسيرون حالياً على خطى المجتمعات الغربية حيث المرأة تعمل كالرجل. وربما لن يمر وقت طويل حتى تصير الأسرة المشرقية كالغربية مشغولة بأشغالها الخاصة، وتتخلّى عن مهمة العناية بعجزتها لمآوي العجزة.