النسخة: الورقية - سعودي طالبت مجموعة من أعضاء الكونغرس الرئيس أوباما بأن يتناول في زيارته الأخيرة للمملكة ما سمّوه بـ«الانتهاكات السعودية الصارخة لحقوق الإنسان». وأشاروا إلى مجموعة قضايا تتعلق بحقوق المرأة والأقليات الدينية وقضايا الإصلاح السياسي. من حيث المبدأ فأنا مع ضرورة الإصلاحات الحقوقية في المجالات كافة. وأرى أن هناك إنجازات تحققت، ولكن لا يزال الكثير مما يجب فعله. في الوقت نفسه أرفض أي تدخل أميركي في هذا الشأن، لأمور: الأول: أن أميركا لا يحق لها أن تقدم مواعظ حقوقية لأي دولة. فسجلها الحقوقي وهي أكثر دولة أسهمت في انتهاكات حقوق الإنسان. الثاني: أن تدخلها يضرنا أكثر مما ينفعنا، لأن التدخل يخلق حالة دفاعية تعرقل مسيرة الإصلاح وتعزز مواقف الرافضين له. الثالث: أن أميركا لن تتدخل إلا في مقابل ثمن لمصالحها وليس لمصلحتنا، فقبل أن نسعد بخطاب يقوله أوباما عن حقوق الإنسان لنسأل: ما الثمن الذي سندفعه في المقابل؟ سجلُّ أميركا الإنساني معروف. ويكفي أن نستحضر كمبوديا وفيتنام وتشيليه وإيران الشاه وغواتيمالا ونيكاراغوا وإندونيسيا سوهارتو وغيرها كثير. بل إن عدد من تضررت حقوقهم الإنسانية بسبب أميركا أكثر من كل مظالم الدول العربية مجتمعةً. لكن سأشير إلى سجلِّها في مجال التشريع الحقوقي والممارسة الحقوقية في أرضها. وسأعتمد هنا على مقالة للرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر كتبها 2012 في «نيويرك تايمز» عن «انتهاكات الولايات المتحدة لحقوق الإنسان» بدأ بالقول: «الولايات المتحدة تتخلى عن دورها في نصرة حقوق الإنسان». ثم بدأ بذكر عمليات الاغتيال غير القانونية ويرى أنه كافٍ للقضاء على السلطة الأخلاقية الأميركية. ثم يذكر التشريع الذي أعطى الرئيس الأميركي حق احتجاز فرد بلا أجل محدد. وإلغاء قوانين الخصوصية وحماية المواطن من التنصت بغير أمر قضائي. والقتل بالدرونز وغوانتانامو. هذه المواقف الأميركية ليست رد فعل لأحداث 11 أيلول (سبتمبر). فبين الولايات المتحدة وبين حقوق الإنسان خصومة متأصلة. ففي 1999 كتب ريد برودي reed brody - وكان حينها عضواً في مجلس إدارة منظمة حقوق الإنسان الدولية - مقالة بمناسبة مرور نصف قرن على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. اختار عنواناً لمقالته هو «مشكلة أميركا مع حقوق الإنسان». خلاصتها أن الولايات المتحدة تتصرف وكأن قوانين حقوق الإنسان لا تنطبق عليها. ويركّز على ممانعة الولايات المتحدة المصادقة على اتفاقات حقوق الإنسان العالمية المختلفة، التي وقّعتها غالبية دول العالم. مثلاً لم توقع أميركا على اتفاقية سيداو cedaw ولم توقع على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ولا على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية. سجلّ أميركا كافٍ لرفض أي موعظة أميركية حقوقية. ولكن الأمر أكثر من هذا. فبين الموقِّعين على الخطاب مجموعة لديها موقف عدائي مبدئي من المملكة، بل ومن الإسلام، ومن ثم لا يمكن اعتبار توقيعهم إلا موقفاً سياسياً وليس حقوقياً. إن السياسي الأميركي - ولاسيما المحافظ اليميني - لا يطالب بالحقوق في السعودية لأجل السعوديين، بل لسياسات محليّة داخلية أميركية. وسأكتفي بذكر سيرة أحد الموقِّعين، بل لعله أبرزهم وهو ترينت فرانكس trent Franks. فرانكس نائب جمهوري عن الدائرة الثامنة من ولاية أريزونا. محافظ يميني متشدد. ومسيحي ملتزم يجاهد منذ سنين لأجل الحريات الدينية والقيم الإنجيلية. وفي الوقت الذي يحارب لأجل الحريات الدينية فإنه ينتقد إدارة أوباما، لأنها فشلت في تحديد عدو الحرية الحقيقي يقصد: الإسلام. متعاطف مع حملة تطهيرية قامت بها النائبة اليمينية المتطرفة ميشيل باكمان michele bachmann ضد موظفين مسلمين في الحكومة الفيديرالية. وأيّد تقريراً صدر في 2010 بعنوان: «الشريعة: التهديد ضد أميركا». وعندما اعتذر الرئيس الأميركي عن حرق القرآن بالخطأ من قوات الناتو في أفغانستان عام 2012 انبرى فرانكس ليُظهر «قرفه» من أوباما واعتبر الاعتذار إهانة للمسيحيين. أما عن سجلّه في الكونغرس فقد صوّت ضد دعم المؤسسات الديموقراطية في الباكستان، ولديه سجل سيئ جداً في ما يخص الفلسطينيين، ويكره أوباما لدرجة خيالية لذلك فلا شك أنه لم يطلب هذا لأنه يريد تحسين صورة أوباما، ولكن لأنه يكره السعودية أكثر مما يكره أوباما. وقد وصفه زميله الجمهوري جابريل جومز garbiel Gomez بأنه «غبي» وقال: «هو شاهد حي على أن الغباء ليس له انتماء سياسي». بعضنا يظن أنّه تصح الاستفادة من هذه الضغوط لأجل الدفع بعملية الإصلاح الحقوقي داخل السعودية، ويرى أن المسألة منافع متبادلة، ويقول: «صحيح إن مثل هؤلاء لهم مصالح، ولكن بتحقيق مصالحهم ستتحقق لنا مطالب حقوقية مهمة قد لا تُنجز لولاها». من حيث المبدأ فأنا مؤمن بمشروعية تبادل المصالح وتحقيق ربح للطرفين، ومؤمن بأن بعض الجهود الدولية تُسهم في إصلاح الأوضاع الإنسانية الداخلية في بعض الدول. ولكن مع ذلك أختلف مع ذلك الرأي من أكثر من جهة. أولاً: أنا مؤمن بضرورة تحديد مصلحة الطرف الخارجي قبل الاستفادة منه. لأنه قد تكون له مصلحة ضد أمني القومي، ومن ثم يعود عليّ ضرر أعلى مما سأستفيد منه. مثلاً، هل يمكن أن أتعاون في قضايا حقوقية مع من يرى أن القضاء عليّ هو جزء من أمنه القومي؟ ثانياً: إن التاريخ أثبت لنا أن التدخل الأميركي في شؤون المملكة الداخلية لم يحقق تغييراً إيجابياً يُذكر، بل إن ما يحصل هو أن تتمسك المملكة بمواقفها ويشتد التطرف الداخلي. ثالثاً: حتى لو وقّعت على الخطاب أطراف محايدة ومخلصة للقضايا الحقوقية فإنه لا بد من تقويم التوظيف السياسي الدولي لهذه المواقف النبيلة. فأي موقف مهما كان نبيلاً إلا أنه متى دخل الساحة السياسة فإنه يتحوّل إلى ورقة سياسية تتم المقايضة بها. هذه حقيقة مؤلمة ولا بد للحقوقيين من التعامل معها بحنكة، للسيطرة ما أمكن على كيفية توظيف نُبلهم سياسياً. الخلاصة أن الاستقواء بالأجنبي على حكومة محلية قد يؤدي إلى أن يستفيد الأجنبي ويخسر الشعب وتُستفز الحكومة وتخسر القضية. ومن الأهمية أن نستحضر دائماً الكلمة الخالدة للإمام علي - رضي الله عنه -: «كلمة حق أريد بها باطل». * كاتب سعودي.