النسخة: الورقية - سعودي كانت العامة، ولا تزال، سيفاً مشرعاً على رقاب معارضيها من أهل الفكر والفلسفة، وتلك ظاهرة تكاد تجدها من دون استثناء في الأديان والمذاهب كافة. فقبل بضع أعوام، تفاخر أحد رموز الصحوة بأن الشارع (= الأتباع) يقف معهم وأنه طوع بنانهم فيما لو وقع طارئ. وهو ما هدّد به أحد رفاقه حين استيأس من شراء سكوت امرأة اتهمته بالسطو على كتابها، وهو ما جرى لها ولعائلتها من حملات تشويه وتركيع، قبل أن تفتك حقها بقوة القانون. ولعلكم تذكرون كيف وظّف بعض المشايخ فضاء «تويتر» في تهييج وتجييش أتباعهم ضد حمزة كشغري بعد اتهامه بالإساءة إلى مقام الرسول الكريم. وحق لهؤلاء أن يناموا ملء جفونهم ويضحكوا ملء أشداقهم ما دام أنه تحت أيديهم جماهير عريضة تصدقهم وتلهث وراءهم وتنافح عنهم. إننا إذا عدنا قروناً إلى الوراء سنجد العامة كانت هي اليد التي استعملت للبطش بأهل العقل والفكر. فهذه الأندلس، التي ما زلنا نذرف من أجلها الدمع السخين، كانت أشبه بمقبرة لذوي العقل والنظر، من أمثال ابن حزم وابن ماجه وابن طفيل وابن رشد وابن مسرَّة، بسبب التأليب عليهم. فمن الأمثلة على ذلك: أن الحاجب أبا منصور المعافري عمد إلى خزائن الكتب حاشا كتب الطب والحساب، وأمر بإحراقها وطم بعضها وكانــت كثيرة للغاية، تحبباً إلى العوام. وكما تقدم معنا، فتعصب العوام ضد المفكرين ليس قاصراً على دين أو مذهب من دون سواه. فأوروبا، وقبل ولادة عصر التنوير، كانت تهيمن عليها موجة من التعصب الكنسي بلغت ذروتها مع قيام محاكم التفتيش سيئة السمعة. فمِمَّا يُحكى أن طبيباً إسبانياً كان يعمل في سويسرا أنكر الثالوث وتعميد الأطفال، فأخذوه وأحرقوه حياً. ولما علم الفرنسيون بصنيع جيرانهم تملكتهم الغيرة، فعملوا تمثالاً للطبيب المسكين، ثم أحرقوه في أجواء احتفالية. وذُكر أن رجلاً كتب دفاعاً عن الطبيب باسم مستعار لئلا يفتكوا به. ولما توفي هذا الرجل فطنوا إلى أنه هو من كتب دفاعه عن الطبيب، فنبشوا قبره وحرقوا جثمانه. ولكن، لماذا ينحاز ضد الفلاسفة والمفكرين؟ أطرح هذا السؤال، لأن كثيراً من هؤلاء المفكرين أخذوا على أنفسهم مهمة الدفاع عن حقوق الناس ضد الاستبداد وتوظيف بعض الفقهاء للدين في تخدير العوام. إلى ماذا نعزو هذا الشيء؟ أيصدق أن نقول إن عقول العوام عقول استسلامية، بمعنى أنها لا تملك القدرة على النقد والتفكير، ومن ثم يسلس قيادتها من خلال استثارة مشاعرها الدينية، أم نقول إن العامة مفطورة على التعصب، ومن ثم فهي لا ترى وتسمع إلا ما تريد عيونها وآذانها أن تراه وتسمعه؟ فهم كمن يعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق، بمعنى أنهم إذا أحبوا شخصاً رفعوه إلى السماء، مهما كان من أمره. فلو أنك جئت لهم بكلام لكاتب سياسي ثم نسبته إلى شيخ دين، لقالوا: لله درك يا شيخ! وأما إذا جئت لهم بكلام الشيخ ثم نسبته إلى الكاتب لقالوا: إلى متى نصبر على هؤلاء العلمانيين؟ عمـــوماً، الإجـــــابة عن سؤال كهذا تستدعي تسويد صفحات كثيرة لا تتسع لها مقالتنا هذه.