إذا كان عام 1907 يؤرخ به في مصر لظهور الأحزاب السياسية، وتأسيس النادي الأهلي المصري لدعم النضال الوطني ضد الاحتلال الإنجليزي، فإنه ذلك العام أيضا الذي قام فيه الخواجة المصري اليهودي «سلامون هنهايات» بافتتاح أول ورشة بالقاهرة لإصلاح وبيع الساعات ذات الماركات الشهيرة، وكذلك نظارات الشمس. ففي منطقة بولاق أبو العلا الشعبية بالعاصمة المصرية، لا تزال هذه الورشة قائمة على حالها وديكوراتها منذ تأسيسها قبل 110 أعوام، ورغم اختلاف الزمان لا تزال عقارب ساعاتها تعد الدقائق والثواني، وتقف أخرى صامدة لتشهد على أحداث وتغيرات مر بها المجتمع المصري. عند توقفك أمام المكان ستجذبك لوحة تعلن عن المكان كتب عليها «شركة س هنهايات»، وبمجرد عبورك الباب القديم تكون قد دخلت إلى عالم أثري أو متحفي قوامه ساعات اليد والجيب والحائط والمنبهات. رائحة الماضي يلمسها الزائر على ديكورات المكان التي صنعت خصيصا في سويسرا مع تأسيس المكان، أو مع الإعلانات القديمة المنتشرة بأرجائه لتعلن عن ماركة الساعات الأشهر التي كان الوكيل الرسمي لها في مصر قديما والتي تسمى «نوملاس وتش»، والتي يمكن قراءتها من اليسار لليمين لتكتشف أنها «سلامون» نسبة إلى مؤسس وصاحب هذا المكان الأول!. بين مئات الساعات الحديثة وأيضا القديمة، يجلس مدير المكان الحالي عصام سيد أحمد، الذي فتح لنا خزائن الساعات والذكريات ساردًا قصة المكان لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «عند افتتاح هذا المحل قام الخواجة اليهودي ذو الأصل البلغاري سلامون هنهايات بتعيين اثنين موظفين مساعدين له، هما السيد جورج (مسيحي) وأحمد سيد (مسلم)، لأنه كان دائم السفر إلى سويسرا وألمانيا لتعامله الدائم مع موردي الساعات هناك، إلى جانب متابعة عمله الأساسي كصائغ مجوهرات». ويتابع التأريخ للمكان قائلا: «استمر العمل بين سلامون وشريكيه لسنوات طويلة، تحولت فيه علاقتهم إلى صداقة، جعلتهما يتحولان من عاملين إلى شريكين له، وعقب اندلاع ثورة يوليو في عام 1952 قام الخواجة بالتفكير في الهجرة من مصر كغيره من اليهود العرب الذين هاجروا منها في هذا الوقت، وبالفعل غادر القاهرة عام 1956 تاركا نجله ميشيل مع شريكيه، وفي غضون عام صفى الابن ممتلكات الأب في مصر وباع هذا المحل إلى شريكه المسلم». يعتز الرجل الأربعيني بأنه حفيد الحاج أحمد سيد، معتبرا نفسه أنه يمثل الجيل الثالث في هذا المكان، بعد جيل الخواجة سلامون وجده وشريكهما، ثم الجيل الثاني المتمثل في والده، الذي أدار المحل لسنوات أخرى، قبل أن يؤول في النهاية إليه. خزائن الذكريات لا تتوقف فقط على قصة إنشاء المكان، فعشرات القصص يمكن التعرف عليها هنا. يقول عصام، الذي يشتهر بلقب «السلاموني» نسبة للخواجة: «نال المحل شهرة كبيرة مع تأسيسه، جعلت الأثرياء والمشاهير يقبلون عليه سواء للشراء أو الصيانة، فأفراد الأسرة العلوية الحاكمة كانوا من زبائن المكان، وأبرزهم الملك فؤاد ومن بعده الملك فاروق، كما احتكر المكان صيانة ساعات ضباط وجنود الجيش الإنجليزي في ثكناته بأنحاء مصر قبل جلائهم عام 1954، وكذلك الموظفون الأجانب بهيئة قناة السويس، هذا بالإضافة إلى الزبائن من الأدباء والسياسيين والفنانين والمشاهير». ويوضح السلاموني أن كل هذا التاريخ موثق في «دفتر» خصصت كل صفحة فيه لزبون من زبائن المحل، وذلك بداية من عام 1931، حيث كان الخواجة حريصا على ذلك، بل إنه وضع نظاما دقيقا لسير العمل، ولعل ذلك سر نجاح المحل. بتقليب الدفتر العتيق يمكن مطالعة صفحات الملك فؤاد والملك فاروق وسعد زغلول ومصطفى النحاس وهدى شعراوي، ومن الفنانين يوسف وهبي وتحية كاريوكا ونجيب الريحاني زكي رستم ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومصطفى أمين وعلي أمين وتوفيق الحكيم ومصطفى محمود. ولا يزال المحل حتى اليوم يجتذب الكثير من المشاهير، لا سيما السفراء الأجانب والسياسيين، لقربه من وزارة الخارجية وحي الزمالك الشهير بحي السفارات من ناحية، ولشهرة المحل وما يقدمه من صيانة مبينة على خبرة طويلة من ناحية أخرى. من أبرز المقتنيات القديمة في محل «هنهايات» التي تجذب زائره، ساعة حائط طويلة من ماركة «نوملاس وتش»، عمرها أكبر من عمر المحل نفسه حيث تقترب من 150 عاما، وقد أهديت للمحل منذ افتتاحه كنوع من الدعاية للشركة، وما زالت تعمل حتى الآن بكفاءة، وتعلوها لافتة كتب عليها «ملكة الساعات». أما منبه الملك فاروق فهو من القطع التي يفخر بها المحل، وقصته يحكيها عصام قائلا: «المنبه تعرض للعطل في فترة الأربعينات وتم إحضاره للمحل للصيانة، وقد عجز عن إصلاحه جميع (الساعاتية) بالمحل، إلا أن والدي تمكن من ذلك رغم أن عمره كان وقتها 11 عاما فقط، وعندما عاد المنبه للملك وعلم بقصة الطفل الذي أصلحه، قرر إهداءه المنبه مكافأة له، ومن ثم وجد بالمحل منذ ذلك الوقت». من مقتنيات المحل أيضا ساعة شركة «مصر للتأمين»، وكانت مزودة بـ«حصالة»، لتعويد الأطفال الادخار، حيث يتم وضع القروش داخلها. وهناك أيضا ساعة المندوب السامي البريطاني، إلى جانب عدد من ساعات الجيب واليد القديمة، التي دأب المدير الحالي للمحل على جمعها خلال السنوات الماضية. يحافظ السلاموني على المحل بوضعه القديم رافضا أي شكل للحداثة فيه، معللا ذلك بقوله: «ستضيع قيمته.. فهو على هيئته التي بدأ بها يمثل تراثا كبيرا، ويحمل قيمة معنوية لا تقدر بمال». ويوضح أنه يواجه إغراءات كبيرة لبيع محله بأموال طائلة، نظرا لموقعه بوسط القاهرة، ولكنه يرفض كافة تلك الإغراءات الاستهلاكية، موضحا أنه لا يبحث عن مكسب مادي، «فمكانتي من مكانة هذا المكان، وأنا مرتبط به ولو خرجت منه أفقد قيمتي، وهذا هو المكسب الحقيقي الذي أبحث عنه». ويختتم السلاموني حديثه بالقول: «أحلم أن أؤسس متحف للساعات، يكون نواته هنهايات، ليكون قبلة جمع محبي الساعات القديمة في العالم».