في الوقت الذي أصبح الناس معزولين داخل أنفسهم.. ومتواجدين مع غيرهم من أفراد العائلة والأصدقاء في المكان والزمان ذاته.. ولكن لا يربطهم أي اتصال إنساني.. كالحديث والتواصل الروحي والنفسي.. رغم أن المسافة بين كل فرد والآخر لا تتجاوز أحياناً سنتيمترات بحيث إنه يمكن للشخص أن يمد يده ليسلّم على من بجانبه، ولكن اختيار كل شخص عزلته الخاصة به رغم تواجده مع من حوله، فرض عزلة اختيارية جديدة لا تحتاج مكانا خاصا لا يشاركك فيه أحد، أو زمناً يعنيك فقط مرتبطاً بتوقيت معين، لأن المكان والزمان هنا معدومان ولا قيمة لهما، في ظل التمتع بالصمت والعزلة داخل الجهاز الذي تحمله معك وتعيش داخله مع صور وأحاديث وقصص وحكايات مصنوعة أو تقوم أنت بصناعتها.. أو تستمع إليها أو ترسلها..! في الزمن الماضي تستطيع أن تتلصص على من يقرأ جريدة في الطائرة أو أماكن الانتظار أو المنزل حتى.. تقرأ الصفحة الخلفية أو تتأمل الصورة لأنها متاحة.. وتتشارك معه.. الآن اختلف الأمر وأصبحت الصورة أحادية ومتداخلة مع الشخص نفسه.. الغريب أن الصحف التي كنت تتمتع بقراءتها في الطائرة في آخر رحلتين لي لم أجدها ولم توزع على المسافرين ويبدو أن الخطوط السعودية توقفت عن توزيعها في الطائرات رغم أهميتها من وجهة نظري لمن تعود عليها.. لمن يقرأ أو اعتاد على الجريدة في الطائرة.. وأعتقد أن الكثيرين لم يفقدوها كونهم بدأوا اعتياداً جديداً على جوالتهم حيث ينغرس المسافر داخله من كل الأعمار حتى تهبط الطائرة..! ورغم هذه العزلة المتوفرة والاختيارية التي تتيحها هذه الأجهزة إلا الناس لا يزالون يعيشون داخل دوائر القلق والتوتر والأكيد أن وسائل التواصل الاجتماعي زادت من حدة الأوجاع النفسية ورفعت نسبة القلق خاصة وأنت تتوحد داخل جهاز ليس به حياة أو روح تلتقي بها إلا افتراضاً.. وفي ظل تباعد أفراد الأسرة وانعزال كل شخص مع نفسه وجهازه في حالة تبدو مريحة وآمنة ولكنها في الوقت نفسه تجعلك وحيداً باحثاً عن الحياة الحقيقية.. وقد تدخل مع طول فترات الاستخدام في حالة نفسية قاسية أو اكتئاب أو شعور بالضيق والاختناق.. ولن تجد من تفضفض له في ظل انشغال كل شخص بنفسه..! ماذا تفعل لتخفف من هذه الضغوط؟ هل تبحث عن صديق يسمعك؟ أو تشتكي لحبيب أو قريب؟ سوف يسمع ولكن لزمن معين فقط لأنه هو أيضاً مشغول بما لديه وليس متفرغاً لك.. وعليك الخروج من الأزمة..! مكتبة أم الدنيا في القاهرة التي افتتحت منذ أربع سنوات تقدم مساحة للدراسة والفنون وتنظم دروساً في تعليم الحرف اليدوية للأطفال.. وتوفر إستديوهات للتسجيل الموسيقي وتنظم حفلات للموسيقين المبتدئين.. ولكن الأهم من كل ذلك.. قامت المكتبة بإنشاء غرفة صراخ للتخفيف من متاعب وضغوط الحياة اليومية التي لا تنتهي.. حيث يتجه شبان وشابات للغرفة لإبعاد شبح الإحباط عن أنفسهم والتخلص من الطاقة السلبية وتجديد النشاط.. والغرفة التي تقع في المكتبة عازلة للصوت ومجهزة بمجموعة طبول بما يسمح لرواد الغرفة بقرعها للتخلص مما يقلقهم.. ويقضي المتوتر عشر دقائق داخل الغرفة منفرداً دون أجهزته الإلكترونية في غرفة معزولة بقماش أسود لضمان الخصوصية التامة.. يصرخ كما يشاء ليحل مشكلاته ويتخلص منها ويخرج متخففاً من كل ما كان يضغط عليه..! أخيراً كانت الصحيفة وكان الصديق هما اللذان يحلان المشاكل ويسمعانك، الآن جهازك والغرفة المعزولة هما من يسمع ويحتوي..!!