منذ سبتمبر 2014 واليمن يُعاني من صراعٍ واقتتالٍ ، هو الأسوأ في تاريخ اليمن الحديث، دفع ثمنه ، ولا يزال المدنيون والنساء والأطفال ، وكل البُنى التحتية والخدمية ، وتفاقمت معه المعاناة الإنسانية ، بدرجةٍ بالغة القسوة، بل أضحى شبح المجاعة يُخيَّم على العديد من مناطق ومحافظات وقرى اليمن ، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة ومُنظمات الإغاثة الإنسانية. وحتى الآن لا توجد أيَّة مؤشرات إيجابية، لإنهاء مأساة اليمن. تتحمَّل القوى الكبرى ، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ، مسؤولية استمرار هذا الصراع المرير ، لتنصلُها عن القيام بواجباتها الدولية لجهة تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالأزمة اليمنية وفي مقدمتها القرار الأممي 2216 ، وهي في ذلك تمارس سياسة إدارة الأزمات لتعظيم مصالحها ونفوذها في المنطقة والعالم. ناهيك عن مسؤولية أطراف صنعاء، بإفشالهم كل جولات التفاوض السابقة ، وآخرها مفاوضات الكويت التي استمرت زهاء ثلاثة أشهر دون نتيجة. وكلما طال أمَد الصراع ، كلما تعقَّد المشهد اليمني أكثر ، وترسَّخ خطاب الكراهية ، والتَّوجس ، والثأر ، والانتقام ، وتبددت آمال التوافق والاتفاق حول مستقبل اليمن، ومشروع الدولة الاتحادية. أكثر ما نخشاه ونتخوَّف منه ، احتمالات تَصَدَّع معسكر الشرعية برئاسة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي ، فالتمرُّد الذي حدث في مطار عدن ، وقبل ذلك في الميناء ، والنفط ، والمصافي ، والصراع والاقتتال في تعز بين أجنحةٍ متنافسةٍ في المقاومة اليمنية ، هو آخر ما تحتاجه حكومة الرئيس هادي في هذه المرحلة من الصراع مع أطراف صنعاء ، وفي خضم الاستعداد بمساندة التحالف العربي لمعركة تحرير ميناء الحديدة الاستراتيجي بعد ميناء المخا ، على الساحل الغربي ، وهذا الأمر لا يحتمل أيَّة انكساراتٍ أو تصدُعاتٍ في جدار الشرعية اليمنية. من صاحب المصلحة! في زعزعة الأمن والاستقرار وتقويض أو إضعاف السلطة الشرعية ، والمقاومة الشعبية! ومن صاحب المصلحة في إحداث تصدعٍ في جدار الشرعية بمعاول الحزبية والجهوية والمناطقية والمصالح الضيقة! جنوب اليمن ، أو ما يُطلق عليه دعاة الانفصال الجنوب العربي ، بدا بيئة خصبة لمعاول الهدم هذه ، تحت وقع إرثٍ تاريخي من الصراع المرير بين مكوناته وطوائفه قبل الوحدة وبعدها حول هوية جنوبهم، وهم في ذلك بين اتجاهين متناقضين: اتجاهٌ يميل ميلاً شديداً نحو هوية اليمن الواحد ، والدولة الاتحادية ، وهو اتجاه الأكثرية، واتجاهٌ آخر يميل ميلاً شديداً نحو الانفصال ، وعودة التشطير، وقيام دولة الجنوب العربي ، وهو اتجاه الأقلية ، وبين هذا وذاك يستعر صراع النفوذ والمصالح والجهوية، الذي تُغذيه التدخلات الإقليمية والدولية. محاولات الانفصاليين بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى زمن التشطير ، والدولة الجنوبية ، تغليبٌ للمصالح الجهوية ، والمكاسب الانتهازية ، ومصادرة لحق الأكثرية ، في التعايش المشترك داخل دولة اتحادية جامعة لكل المكونات اليمنية. فمؤتمر الحوار الوطني اليمني الذي عُقد في صنعاء عام 2014 أقرَّ في أحد بنوده، تأسيس دولة اتحادية مكونة من ستة أقاليم، أربعة منها بالشمال، واثنان بالجنوب، هما إقليم عدن ويضم عدن ولحج والضالع وأبين، وإقليم حضرموت ويضم حضرموت والمهرة وشبوة وسقطرى. ويمكن مراجعة وتعديل كل ذلك، حين يأتي أوانه، وفي إطار الدولة اليمنية الاتحادية! لكن الإصرار على إثارة مثل هذه القضايا ، شديدة الحساسية ، وتأزيم المشهد السياسي الجنوبي ، لا يخدم في المُحصّلة النهائية سوى أجندة الانقلابيين ، فضلاً عن بعثرة جهود الشرعية في إعادة الاستقرار والتنمية إلى المناطق المُحررة. ورغم وجود أيدي خفية تقف خلف تأجيج الدعوات للانفصال، وتقويض أو على الأقل إضعاف السلطة الشرعية، فإن ذلك لا ينبغي أن يحجب مسؤولية حكومة الرئيس هادي في كل ما يجري على الساحة اليمنية الجنوبية ، لجهة حضورها الباهت، في المناطق المُحررة ، والتَّردد المعيب في حزم حقائبها ، والعودة نهائياً إلى العاصمة المؤقتة عدن ، وإدارة البلاد ، وفق قواعد المهنية ، والمسؤولية ، ومُعايشة هموم اليمنيين ومشكلاتهم الأمنية والخدمية والمعيشية ، وصناعة مقاربات سياسية تحفظ الحد الأدنى من التوافق السياسي داخل المناطق الجنوبية! هذا الحضور الباهت ، والأداء الفاشل ، حتى في دمج المقاومة في مفارز الجيش والأمن وحلّ كل الكتائب والمجموعات والأحزمة التي تعمل خارج منظومته كل ذلك يُلقي بظلاله القاتمة على أوضاع المناطق المُحرّرة. وقد تتفاقم أكثر إذا ظلَّ هذا الأداء الباهت للحكومة اليمنية ، ما قد يُنهي آمال اليمنيين بدولة اتحادية مستقرة إلى كيانات متنافسة تهيمن عليها المليشيات والفصائل المتناحرة والمصالح المتضاربة. د. عبد المجيد الجلاَّل كل الوطن