يثير التأثير المحتمل لوسائل الإعلام الروسية في الحملة الانتخابية الرئاسية في فرنسا القلق ومختلف التكهنات. فما هي حقيقة هذا التهديد؟ نفت الرئاسة الروسية أي تدخل لها في الانتخابات الرئاسية في فرنسا منددة بمحاولات تشويه تستهدف وسائل الإعلام الروسية، غداة اتهامات من حركة المرشح إيمانويل ماكرون إلى الأمام التي ألمحت إلى أن موسكو تعمل ضده. وصرح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف لم يحدث ولم يسبق لنا أن فكرنا في التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد، فناهيك عن عمليته الانتخابية مؤكدا أن موسكو لم يسبق لها البتة أن فعلت ذلك رسميا ولن تفعله في المستقبل. وتابع إن القول بأن وسائل إعلامنا تحاول التأثير على الرأي العام أمر عبثي منددا بمحاولات تشويه قناتي آر تي (روسيا اليوم) وسبوتنيك التابعتين للدولة الروسية واللتين اتهمهما فريق حملة ماكرون بالعمل ضد ترشحه. وكان الاثنين ريشار فيران الأمين العام لحركة إلى الأمام قد طلب عبر قناة فرانس2 العامة من أعلى سلطات الدولة ضمان عدم تدخل قوة أجنبية في حياتنا الديمقراطية. كذلك ندد فيران بأخبار خاطئة وشائعات متحدثا عن مئات، بل آلاف الهجمات على أنظمة المعلوماتية في إشارة إلى روسيا المتهمة بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وكانت القناتان المعنيتان قد نددتا في وقت سابق باتهامات حركة ماكرون مع نفي نشر معلومات خاطئة عموما وحول إيمانويل ماكرون أو الانتخابات الرئاسية المقبلة في فرنسا. وطورت روسيا في السنوات الأخيرة وسائل إعلامها العامة الموجهة إلى الجمهور الدولي بهدف إسماع وجهة نظرها في القضايا الدولية، لكن آر تي وسبوتنيك اتهمتا خصوصا من البرلمان الأوروبي بأنهما وسيلتا دعاية للرئاسة الروسية. وسائل إعلام تابعة للكرملين؟ بعض الاتهامات التي تقول إن موسكو تسعى عبر وسائل إعلامها إلى زعزعة أحد المرشحين للرئاسة الفرنسية دون غيره، فحسب فيران وبصفة غامضة لا تتطرق إلى شؤون السيدة لوبان أو السيد فيون، تبدو وكأنها تتخذ شكل قصة إثارة أو فيلم تجسس وتآمر يعود إلى حقبة الحرب الباردة... فما هي حقيقة هذه المسألة. ظهرت قناتا آر تي وسبوتنيك في المشهد الإعلامي الفرنسي العام 2015 في شكل مواقع إلكترونية على غرار ما حصل في بلدان أخرى عديدة. وإن كانت القناتان تشكلان كيانين منفصلين فإن الكرملين يمولهما كلاهما كما تديرهما رئاسة تحرير مشتركة في موسكو وتتبعان نفس الوكالة الحكومية الروسية روسيا سيغودنيا. ولهاتين القناتين يولي الكرملين أهمية كبيرة دبلوماسية وإستراتيجية بنفس قدر تلك التي يوليها لشركات التسليح أو الطاقة وفق ما يوضح لفرانس24 جوليان نوسيتي وهو باحث مختص في الشؤون الروسية ومتعاون مع المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية إفري. ويتابع الباحث قائلا إن الإدارة تتم فيها بشكل عمودي تراتبي. فهل يمارس هذا التنظيم العمودي حتى في الفروع الفرنسية؟ من الصعب تقييم هذا الأمر لكن يؤكد نوسيتي أن حذرا كبيرا يسودها. فأعضاؤهما يتحدثون بالكاد إلى الخارج ولا يتكلمون أبدا عن عملهم ولا عن علاقتهم بالكرملين. فحتى أنه يسهل أن تلتقيهم في موسكو أكثر من باريس. وإلى ذلك قال مؤخرا إيفان إرهال المتحدث باسم الفرع الفرنسي لسبوتنيك في حوار مع فرانس24 لدينا نظرة بديلة عن الأخبار لكنها مستقلة تماما عن أي توجيه من الكرملين أو أي جهة أخرى. ماذا وراء الإعلام البديل ؟ تقدم سبوتنيك نفسها على موقعها الفرنسي على أنها حاملة لأخبار بديلة تدل على طريق عالم متعدد الأقطاب. من جهتها تقول آر تي إنها تريد تقديم وجهة نظر بديلة عن كل الأحداث الرئيسية في العالم وإطلاع الجمهور الأجنبي على الموقف الروسي. يبدو الخطاب ناعما... على عكس إعلان عن شغل وظيفة نائب رئيس تحرير في ار تي بباريس حصلت عليه فرانس24 وجاء فيه تفرد هذا العرض تكمن في تفرد وسيلة الإعلام نفسها: إنها وسيلة إعلامية تثير الجدل وستواصل خلق الجدل في الأشهر المقبلة وأيضا إن المرشح لهذا المنصب يجب أن لا يخشى الضغط ويكون قادرا على تولي مسؤولية سياسة تحريرية مثيرة للجدل. حين قرأت العرض أثارت نقاط عديدة حفيظتي، هذا ما قالته لفرانس24 إحدى الصحفيات التي طلبت من آر تي المزيد من التفاصيل بشأن المنصب. وتتابع أن المعاش المقترح كان مرتفعا بالمقارنة مع التجربة المطلوبة وخصوصا أنها عندما ضغطت على رابط لموقع كان يرافق العرض أصيبت بالخيبة وجدت مقالا مواليا لترامب ومقالا معاديا للمثلية وآخر مناصرا لليمين المتطرف. حينها أخبرت الصحفية ار تي بأنها لن تقدم ترشحها لأسباب أخلاقية. وتضيف أن آر تي تتخطى الإعلام الشعبوي بدرجة، وهي درجة الدعاية. ظاهريا يبدو موقع آر تي كلاسيكيا ويشبه أغلب المواقع الإخبارية العادية، لكن بين البرقيات والمقالات الخاصة بها (وإن كانت غير موقعة) لا يبدو الشكل بديلا البتة على عكس ما جاء في التقديم. ويؤكد الصحفي نيكولا هينان صاحب كتاب فرنسا الروسية (2016) لفرانس24 لا يجب أن يغيب عن الأذهان أن أفضل دعاية هي تلك التي تبث، وسط كمية كبيرة من الأخبار المتوافق عليها، رسائلها الفاسدة. لذلك فمن مصلحة وسائل الإعلام الروسية أن تظهر قدر الإمكان في شكل وسائل عادية. نظرة مقلقة عن العالم إذا دققنا في موقعي آر تي وسبوتنيك فسنلاحظ غياب أخبار زائفة. لكن وكما قال فريق ماكرون، ينقل الموقعان شائعات تنشرها مصادر مشبوهة على الإنترنت. إضافة إلى ذلك نلاحظ تناولا كثيفا وتهويلا يخلق القلق لأحداث تتعلق بانعدام الأمن عموما على غرار أعمال العنف في الضواحي الباريسية في الفترة الأخيرة إثر قضية اعتداء رجال شرطة على الشاب تيو واحتمال اغتصابه. ويبدو أيضا أن حملة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة -التي تتزعمها مارين لوبان - تحظى باهتمام كبير من هذه المواقع. وكان المتحدث باسم حركة إلى الأمام بنجامين غريفو قد قال الاثنين إن الكرملين اختار مرشحيه، فرنسوا فيون ومارين لوبن، لسبب بسيط جدا: إنهم لا يريدون أوروبا قوية، يريدون أوروبا ضعيفة، وبالتالي (...) يروجون لهذين المرشحين على وسائل إعلام الدولة. ويقول نيكولا هينان لفرانس24 إن وسائل الإعلام الروسية تنقل صورة عن العالم تبعث على القلق. فالفكرة هي أن تظهر الفوضى لتدفع الناس إلى نوع من النسبية تجعلهم يعتبرون في النهاية إن النموذج الروسي الاستبدادي والقامع للحريات ليس سيئا بهذه الدرجة. من جهته يوضح جوليان نوسيتي أن المجال مفتوح للمواضيع المفضلة للكرملين: انتقاد العولمة والاتحاد الأوروبي وتعدد الثقافات، مع التأكيد على القيم المحافظة. مناورات تدخل لكنها ليست مؤامرة هل تسعى آر تي وسبوتنيك إلى التأثير في الرأي العام الفرنسي لدعم مرشح ما على حساب آخر؟ يرى نوسيتي أن ما يظهر من التوجهات الرسمية الروسية هو إرادة إعادة تشكيل النظام العالمي والتشويش على قدرة القوى العظمى على اتخاذ قرارات بصفة مستقلة. حسب وجهة النظر هذه، يمكن أن تعتبر نقاط ضعف الإدارة الأمريكية الجديدة عوامل تصب بطريقة غير مباشرة في مصلحة الكرملين. لكن على غرار أمريكا في عهد أوباما تشكل فرنسا وألمانيا اليوم أماكن لا تقع تحت تأثير روسيا عموما ولن يستاء الكرملين من وصول أشخاص من أشباه ترامب إلى السلطة في هذه البلدان. يؤكد نيكولا هينان أن لا بد أن الكرملين يرغب في اقتلاع هذه الأوتاد في أوروبا الغربية... لكن لا يجب المزج بين مناورات تدخل وبين مؤامرة للتلاعب بالاقتراع فالفكرة الأخيرة تبالغ في تقدير قدرة روسيا العملية. ويتابع جوليان نوسيتي من جهته يملك فلاديمير بوتين حنكة كبيرة في التعامل مع وضعية ما، لكن لا يعني بالضرورة أن في ذلك إستراتيجية خلافا لما نتصوره. حسب هينان قد يحظى بعض المرشحين لهذه الانتخابات بإعجاب فلادمير بوتين: مارين لوبان وفرانسوا فيون وإن كان خطأ كبيرا أن يعتبر الأخير عميلا للكرملين-، لكن أيضا جان لوك ميلنشون لمواقفه المناهضة للسياسة الأمريكية والأوروبية والليبيرالية التي تجد صدى مع خطاب الكرملين. ماذا عن إيمانويل ماكرون؟ يجيب هينان إنه المرشح الأكثر مناقضة لهذا الخطاب. لذا فتواجهه وسائل الإعلام الروسية (وليس الروسية فقط) بأسلحتها المعتادة: يقدمونه على أنه مرشح النظام، يبثون الشكوك حول توجهاته الجنسية...إلخ. في 4 فبراير/شباط نقل مقال للنسخة الإنكليزية لسبوتنيك أقوال نيكولا دهويك النائب عن حزب الجمهوريون (يمين)، والموالي لبوتين، تزرع الشك بشأن حياة ماكرون الشخصية كما أوحى بأن زعيم حركة إلى الأمام هو عميل أمريكي في خدمة البنوك. تثير مثل هذه التهجمات نوعا من الفانتازما (التوهم) لكن يجب وفق هينان أن نتوخى رؤية متوازنة ونسبية فيرى أن تهويل هذه التفاعلات الروسية التي تظل متواضعة سيفقدنا حس اليقظة اللازم الذي سنحتاجه يوم تهاجم روسيا أو أي قوة أخرى جديا نظامنا الديمقراطي. أصوات موالية للروس لكن ليست دمى متحركة يعتمد موقع آر تي على دعم العديد من المثقفين والسياسيين الفرنسيين على غرار خبير الاقتصاد جاك سبير الذي كان سندا لميلنشون قبل أن ينضم إلى أنصار جبهة معادية للاتحاد الأوروبي يشارك فيها حزب الجبهة الوطنية. ومن بين الشخصيات التي يحاورها الموقع أيضا بانتظام نذكر أيضا النائب عن حزب الجمهوريون تيري مارياني وهو أحد رؤساء جمعية الحوار الفرنسي-الروسي. في هذا الصف توجد أيضا الأكاديمية المختصة في روسيا هيلين كارير دنكوس التي تنتمي مع مارياني إلى لجنة أخلاقيات قناة آر تي فرنسا التي ستنضم قبل نهاية 2017 إلى النسخ الإنكليزية والإسبانية والعربية. وستبلغ ميزانية النسخة الفرنسية 18 مليون يورو سنويا علما وأن ميزانية آر تي الإجمالية في 2017 بلغت 300 مليون يورو. ويشير الباحث نوسيتي بشأن هذه الشخصيات إلى وجود إرادة لإيجاد وسطاء للخطاب الرسمي عبر شخصيات بارزة. من جهته وإن كان هينان يؤكد نخبوية الوسط الموالي لروسيا في فرنسا فهو يرفض فكرة وجود لوبي روسي في البلاد فيقول لفرانس24 أفضل الحديث عن شبكات تتكامل وتتفاعل مع بعضها أحيانا ويمكن أن تتنافس أحيانا أخرى لكن لا يجب أبدا التفكير بأنها دمى متحركة بأيدي الروس. مخاوف من تكرار السيناريو الأمريكي أكد وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت من جهته الأربعاء أن بلاده لن تقبل بأي تدخل كان في عمليتنا الانتخابية، لا من روسيا ولا أي دولة أخرى. الأمر سيان بالنسبة إلى ديموقراطيتنا وسيادتنا واستقلالنا الوطني. وأضاف بعد ما جرى في الولايات المتحدة فإن من مسؤوليتنا اتخاذ جميع الإجراءات لضمان الاحترام الكامل لمصداقية عمليتنا الديموقراطية. كما أكد يجب أن يتم بوضوح إطلاع كل من قد يحاول الإضرار بمبدأ عدم التدخل، بما يشمل اتخاذ إجراءات رد عند اللزوم. لا يمكن أن تؤثر أي دولة خارجية على خيار الفرنسيين، أو اختيار رئيس الجمهورية المقبل. وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قد أعرب في وقت سابق عن القلق من مخاطر الهجمات الإلكترونية بمناسبة الانتخابات الرئاسية وطلب أثناء اجتماع مجلس الدفاع والأمن القومي رفع اقتراحات إليه بشأن إجراءات خاصة للتيقظ والحماية بما في ذلك في مجال المعلوماتية. وسيتلقى الرئيس هذا التقرير في المجلس المقبل في 24 شباط/فبراير قبل شهرين على الجولة الأولى للاستحقاق الرئاسي في 23 نيسان/أبريل، بينما ستنظم الجولة الثانية في 7 أيار/مايو. ويرى خبراء في الولايات المتحدة وفرنسا أن الأمن المعلوماتي للأحزاب السياسية يشكل الحلقة الضعيفة في الانتخابات. وفي تشرين الأول/أكتوبر جمعت الوكالة الفرنسية لأمن أنظمة المعلومات ممثلي الأحزاب الرئيسية لإطلاعهم على التهديدات الرقمية. كما حذر مديرها غيوم بوبار في كانون الأول/ديسمبر من هجمات رقمية كأداة سياسية من أجل التأثير على الرأي العام. مها بن عبد العظيم نشرت في : 17/02/2017