النسخة: الورقية - دولي يخوض الفلسطينيون منذ أكثر من عشرين عاماً غمار عملية سلمية وجولات تفاوضية لا متناهية، بعد أن قررت قيادة منظمة التحرير الممثلة للشعب الفلسطيني أن تستبدل طريق الكفاح والمقاومة بمسار سلمي تفاوضي، في سبيل تحقيق الاستقلال. ولا تشير المعطيات العامة لهذه المفاوضات ونتائجها حتى اليوم، وابتداء من السياق الزمني الذي قامت في إطاره جولات التفاوض، وانتهاء بما وصلت إليه المواقف التفاوضية تجاه قضايا الحل النهائي، التي تعكسها تصريحات قيادتي الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، إلى إمكانية تحقيق استقلال حقيقي للفلسطينيين. وقد يكمن الخلل الرئيسي في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية ونتائجها، أنها تقوم على أساس مقاربتين متناقضتين لطرفيها، كما أنها تأتي في سياق من عدم التوازن بين قوة هذين الطرفين، ما جعل النتائج العامة لهذه العملية تميل لصالح تحقيق مقاربة الطرف الأقوى في معادلة التوازن على حساب مقاربة الطرف الفلسطيني. منذ انطلاقها، جاءت العملية السلمية وجولاتها التفاوضية، ضمن سياق زمني يعمل في غير صالح الفلسطينيين وتحقيق مقاربتهم من العملية السلمية، بل على العكس استخدم ذلك السياق للضغط عليهم لتقديم تنازلات تخدم المقاربة الإسرائيلية لهذه العملية. وفي سياق زمني لا ينفصل عن سياق مؤتمر مدريد، جاءت مفاوضات أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل، وخرجت باتفاق موقت عام 1993، أجل البحث في جميع القضايا الأساسية، من دون تحصيل الفلسطينيين حق السيادة على الأرض أو ضمانات في شأن إقامة دولة فلسطينية، ومن دون أن تكون القدس الشرقية ضمن نطاق الحكم الذاتي. وفي نص الإعلان المتبادل اعترفت المنظمة بإسرائيل وبحقها في الوجود، مقابل اعتراف إسرائيل بها ممثلة عن الشعب الفلسطيني، في تكريس للمصلحة الذاتية للقيادة الفلسطينية على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية. وجاءت الدعوة الأميركية لمفاوضات كامب ديفيد الثانية (1999ـ2000) كأول مفاوضات حول قضايا الحل النهائي، برغبة إسرائيلية، في ظل صعوبات سياسية وإدارية وأمنية واجهت السلطة الفلسطينية، وسيادة حالة من عدم الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، على خلفية عدم تطبيق إسرائيل للمرحلة الثالثة من إعادة الانتشار. واعتقد أيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أنه يستطيع المساومة لإخراج اتفاق يضع نهاية لمطالب الفلسطينيين، ويجعل إعادة انتشار المرحلة الثالثة جزءاً منه، بسقف مطلب فلسطيني منخفض، يتناسب مع الواقع على الأرض. وعلى رغم فشل هذه المفاوضات إلا أنه تم انتزاع موافقة فلسطينية على مبدأ تبادلية الأرض، ودولة فلسطينية منزوعة السلاح، باتت أساساً لأي مفاوضات تالية. وفي سياق شبيه بذلك الذي حكم أجواء مؤتمر مدريد، دعت الولايات المتحدة لخطة خريطة الطريق عام 2002، في ظل تبعات أحداث الحادي عشر من أيلول والحرب على «الإرهاب»، وفي خضم حرب شنتها إسرائيل لقمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. فارتكزت الخطة على محاربة «الإرهاب»، واشترطت وجود قيادة فلسطينية ديموقراطية قادرة على ذلك. ووافقت السلطة الفلسطينية على الخطة من دون تحفظات، ونفذت البند الخاص بالأمن وأجرت تعديلات دستورية تكبل صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الوزراء، بينما رفضت إسرائيل الإقرار بالسيادة الفلسطينية، ولم يجمد أو يفكك (شارون) الاستيطان، بحسب شروط الخطة. بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية، سعى الإسرائيليون إلى فرض مقاربتهم للسلام عبر التركيز على الجانب الأمني ومحاربة «الإرهاب» كأولوية على أي قضايا تفاوضية أخرى، ومنذ ذلك الوقت باتت القضية الأمنية ومحاربة «الإرهاب» جوهر ما تركز عليه المفاوضات. في إطار سياق زمني مثير للجدل، عادت السلطة الفلسطينية إلى المفاوضات مع إسرائيل حول قضايا الوضع النهائي. فعقب أحداث الانقسام الفلسطيني، الذي أضفى مزيداً من الضعف والإحراج لمكانة السلطة، دخل الفلسطينيون مفاوضات أنابولس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، من دون تمسكهم بتجميد الاستيطان. وعادوا وانضموا إلى جولة تفاوضية جديدة أطلقها (جون كيري) وزير الخارجية الأميركي الحالي في تشرين الأول (أكتوبر) 2013، في ظل تصاعد حدة الاضطرابات السياسية والأمنية في المنطقة العربية بأسرها، من دون شرطهم السابق بتجميد الاستيطان، ومن دون التزام إسرائيل السابق بالتفاوض على أساس حدود عام 1967. وانتزعت إسرائيل موافقة فلسطينية على دولة منزوعة السلاح، خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية، فتحت الطريق واسعاً أمام مطالبات أمنية متصاعدة، تفقد الدولة الفلسطينية السيادة الفعلية على الأرض. وتطالب إسرائيل باستمرار سيطرتها على المجال الجوي للدولة الفلسطينية، وزرع محطات إنذار مبكر وإبقاء وحدة طوارئ لردع الأخطار المتوقعة ومخازن سلاح لخدمتها في تلك الدولة، وتواجد مراقبين غير مرئيين على معابرها الحدودية. وطالبت إسرائيل بالاحتفاظ بغور الأردن، والسيطرة على المناطق الحدودية فيها لمدة اثني عشر عاماً خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية. ووافق أولمرت على استقدام طرف ثالث للمرابطة في غور الأردن بعد انتهاء تلك المرحلة الانتقالية، خلال لقاءات أنابولس. في حين يشترط نتانياهو خلال المفاوضات الحالية، عدم تحديد مواعيد أو جداول زمنية تقيد مدة تواجد إسرائيل فيها، ويرفض أي تواجد لقوات طرف ثالث في المستقبل، كما يطالب بوجود منطقة عازلة، على أساس أن منطقة غور الأردن تشكل خط الدفاع الأول ضد التهديدات من الشرق خصوصاً في ظل الواقع الاستراتيجي القائم. ويصر نتانياهو في تصريحاته حول مدينة القدس على ضرورة بقائها موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، ورفض التفاوض حولها خلال المفاوضات الجارية، وتحدث عنها (كيري) بشكل غامض خلال مبادرته الحالية لخطة الإطار. وتضم مدينة القدس الشرقية مئتي ألف مستوطن يسكنون في ثلاث عشرة مستوطنة بنيت بعد احتلال المدينة عام 1967، تمتد شمالاً لتفصل القدس عن مدينة رام الله، وجنوباً لتفصلها عن مدينة بيت لحم، وفي الوقت نفسه تتصل تلك المستوطنات مع أحياء القدس الغربية، في عملية تطويق مبرمجة لمدينة القدس الشرقية. وأبقت جميع الاطروحات الإسرائيلية التفاوضية السابقة حول مدينة القدس، السيادة الفعلية لإسرائيل. فوافقت إسرائيل في كامب ديفيد الثانية على تقسيم المدينة، بالسماح لسيطرة إدارية فلسطينية على الأحياء الخارجية الفلسطينية منها، على أن تبقى السيطرة الإسرائيلية كاملة داخل أسوار القدس، مع إعطاء مكانة خاصة للمسجد الأقصى. واستعد أولمرت لتقسيمها بين الفلسطينيين والإسرائيليين بحسب الأحياء، مع بقاء عمدة يهودي للمدينة بحجة أن اليهود يشكلون غالبية سكانها، على أن يتم تدويل المدينة القديمة. وتسعى السلطة الفلسطينية خلال جلسات التفاوض لتحصيل سيادة داخل أسوار المدينة المقدسة، إلا أنها لم تعارض تقسيم مدينة القدس الشرقية بحسب الأحياء، على رغم أن المدينة بأكملها احتلت في 1967، وبحسب قرار مجلس الأمن 242، يجب على إسرائيل أن تنسحب منها بالكامل. ولم تقر إسرائيل بالمسؤولية التاريخية والأخلاقية والقانونية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين، على رغم استعداد حكومة باراك لإبداء الأسف حيالها، خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية. ومن بين أربعة ملايين لاجئ فلسطيني ينتشرون في أصقاع الأرض، قبلت إسرائيل استيعاب ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف لاجئ على مدار عشر سنوات، خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية، ووافق أولمرت على قبول ألف لاجئ على مدار خمس سنوات، خلال مفاوضات أنابوليس، في حين تنصل نتانياهو من أية التزامات خلال المفاوضات الحالية. وتفاوض السلطة الفلسطينية لزيادة أعداد اللاجئين الذين ستسمح لهم إسرائيل بالعودة، إلا أن حل هذه القضية يبدأ بإقرار إسرائيل بالمسؤولية تجاهها، ثم بالتزامها تنفيذ قرار الجمعية العامة 194، وبالتالي تتحول صلاحيات تحديد أعداد اللاجئين العائدين إلى اللاجئين أنفسهم، وليس لإسرائيل. إن ما طرحته إسرائيل، عبر سنوات التفاوض الطويلة مع الفلسطينيين، في ما يخص قضايا الاستيطان والحدود والأمن والقدس، ينفي أية نية إسرائيلية بإعطاء السيادة للفلسطينيين على أرضهم، حتى وإن انسحبت إسرائيل منها. ومن الواضح أن ما تم التوقيع عليه فلسطينياً خلال اتفاقيات أوسلو، وما تم التفاوض حوله خلال جولات التفاوض المستمرة، لم يصل إلى سقف أو حدود قرارات الشرعية الدولية، التي يسعى الفلسطينيون لتحصيلها، وليس من المتوقع أن ينجحوا في ذلك، في إطار أية مفاوضات تخضع للسياق الزمني الحالي وموازين القوى التي تحكمه. وإن توقيع أي اتفاق يمس بالحدود الشرعية أو القانونية للمقاربة الفلسطينية للسلام من شأنه أن ينفي حقوقاً للفلسطينيين أقرتها قرارات الشرعية، لأن الاتفاقات الموقعة تعد أحد مصادر الشرعية. وإن كان على الاحتلال أن يبقى، فليبقى لكن من دون غطاء من الفلسطينيين، فانسحاب إسرائيلي أحادي الجانب كما تهدد إسرائيل، أفضل من توقيع اتفاقيات تنهك الحقوق الوطنية الفلسطينية، لأن السيادة العليا على الأرض ستبقى للمحتل أيضاً، بحسب ما تشير إليه الطروحات الإسرائيلية. وعلى الفلسطينيين البدء في البحث عن خيارات جديدة، تسمح لهم بالمناورة، لكن بعيداً عن المساومات السياسية، لتحقيق المقاربة الفلسطينية المشروعة، حتى ولو بعد حين. إن حدود القوة متغيرة في عالم السياسة، فمن كان يتوقع أن يساند العالم الغربي الغالبية السوداء في جنوب أفريقيا ضد الأقلية البيضاء ونظام الفصل العنصري فيها. * كاتبة فلسطينية