يعتبر الرسام غيرهارد ريختر «أعظم رسام في أوروبا»، و«الفنان الأغلى، والأكثر تأثيرا» و«بيكاسو القرن الحادي والعشرين»، حسبما وصفته صحيفة «نيويورك تايمز». ربما تبدو هذه مبالغات بالنسبة لشخص عادي، مثل ريختر، فهو رجل نحيف، ذو نظارات كبيرة، ويمكن أن تمر عليه دون أن تلاحظه. وهو نفسه لم يعتد أن يكون مركز الانتباه، حتى بعد أن بلغ من العمر 85 عامًا في التاسع من الشهر الحالي. لكن هناك اختلافًا بينه وبين الفنانين الألمان الآخرين: فقد يكون الفنان زيغمار بولكه مستفزًا، أو ربما يقلل من شأن هواة جمع أعماله الفنية. كما أن الفنان ماركوس لوبرتز يرتدي جواهر مبهرجة ويمشي متوكئًا على عصا رأسها بشكل جمجمة. أما يورج إيميندورف فيحيا حياة بذخ، ومثل ذات مرة أمام قاض بسبب تعاطيه للكوكايين. لكن ماذا عن غيرهارد ريختر؟ إنه بالنسبة للكثيرين، تجسيد للفضائل الألمانية القديمة الممثلة في النظام، والعمل الجاد والانضباط. فمرسمه يقع في مبنى منخفض من الطوب يشبه القبو في حي هانفالد الثري بكولونيا، وهي منطقة يقود فيها نجوم التلفزيون وغيرهم من المشاهير سياراتهم من طراز «بورش» و«جاغوار». وخلف المبنى يقع منزله، حيث يعيش مع زوجته الثالثة تلميذته السابقة، سابين موريتز، وابنهما البالغ من العمر 11 عاما، تيودور. ينفي ريختر بشدة تقارير بأنه واحد من أغنى أغنياء ألمانيا، ولكن ليس هناك شك أنه موسر العيش، بالنظر إلى الأسعار القياسية التي تباع بها أعماله في المزادات. عمل بجد من أجل ماله، ولا يزال. يظل في مرسمه الخاص كل يوم. صارت كولونيا محل إقامته نوعًا ما بطريق الصدفة. ولد في درسدن عام 1932، وفرّ من ألمانيا الشرقية الشيوعية آنذاك عام 1961 وأصبح أستاذًا في أكاديمية الفنون في دوسلدورف، فقط إلى الشمال انحدارًا مع تيار النهر من كولونيا. أحد النماذج الشعبية للرسوم المتحركة في ألمانيا هو «أون فورته» (دون كلمات)، حيث تعبر الرسوم عن نفسها. والشيء نفسه يمكن تطبيقه على ريختر. إنه لا يناقش أعماله. بل حتى أقل في الحديث عن نفسه. وعندما يتحدث بالفعل مع أحد الصحافيين، يمكن أن يحدث إلى حد كبير أن يغير رأيه فيما بعد، ولا يسمح لتصريحاته بالنشر. يمكن أن يكون الأمر غالبًا هو بالضبط هذه الهالة من الغرابة هي التي أسست لمكانته، في حياته الشخصية، كأحد أعظم الشخصيات على الإطلاق في تاريخ الفن. في بداية حياته المهنية في ستينات القرن العشرين، كان كثير من الناس يتحدثون عن نهاية فن الرسم. إذا كان الرسم معنيًا بالواقعية، فهو بالتأكيد أدنى قدرة على ذلك من التصوير الفوتوغرافي، وهكذا كان الحديث آنذاك. وفي الوقت ذاته، فإن الأساليب الأخرى الانطباعية، والتعبيرية والتجريد بدأت تفقد بريقها. ثم جاء غيرهارد ريختر. يعزو له كثير من مؤرخي الفن أنه أسهم بشدة في تقديم أهمية جديدة للرسم. تولى الموضوعات البصرية القديمة المستهلكة المناظر الطبيعية والبحيرات، والصور الشخصية، والرسوم العارية، وصور الأشياء والصور التاريخية ونفذها بطريقة جديدة تمامًا. وكانت إحدى تقنياته الجديدة التلطيخ على قماش الرسم، وأبرز حالة لذلك لوحته الشهيرة «إيما (عارية على الدرج)». تبدو الأنثى العارية تمامًا من الأمام غير واضحة المعالم،، خارج بؤرة الرؤية، كما لو كانت وراء حجاب شفاف، رغم أن المرأة تقترب من المشاهد، فإنها تظل بعيدة المنال. مسافة تبدو إلى حد كبير كتلك التي يحتفظ بها الفنان لنفسه. تبقى مشاهدة عمل ريختر الأكثر إثارة للإعجاب، مجانية. وهو نافذة بارتفاع 19 مترًا في الجناح الجنوبي من كاتدرائية كولونيا. وبينما يصرح بتعاطفه مع الكنيسة، يقول إنه ملحد، وبالتالي لم يتمكن من تنفيذ المأمورية الأصلية للكاتدرائية؛ لوحة للشهداء المسيحيين في القرن العشرين، وعوضا عن ذلك، صنع صورة مجردة تتكون من 11263 مربعًا من الزجاج المعشق الملون من 72 لونا مختلفا. تم تحديد مواقعها عشوائيا عن طريق برنامج كومبيوتر. لم يتحمس الكاردينال يواخيم مايسنر، قائلا إن العمل الناتج عشوائي جدًا، وإن تركيبات الألوان يمكن أن تفسر على أنها تظهر قوة الظلم. لكن الزوار الآخرين يرونه بصورة مختلفة، وحتى أولئك الذين يصرحون بالإلحاد يقولون إنهم يمكنهم الشعور بروحانية معينة في الكاتدرائية، عندما، ربما في يوم غائم، تخترق الشمس فجأة، وتنير النافذة البالغة مساحتها 100 متر مربع. حينها، لا تكون الألواح الزجاجية فقط مضاءة ببراعة، ولكن أيضًا يستحم داخل الكاتدرائية الضخمة بالكامل في مشهد من الألوان الرائعة. لكن الفنان الميال للصمت والتحفظ نفسه، كان لديه شعور بالرضا عن هذا العمل بالتحديد؛ فعندما سُئِل قبل تدشين النافذة في أغسطس (آب) 2007 عن شعوره حين يقف أمامها قال ريختر: «إنه شعور جميل» دون أي تردد.