الشارقة: محمد ولد محمد سالم هكذا أنتم، ولن تكونوا سوى هكذا، أنتم قلة أنظارها محدودة، تبدعون في الكلام، ولا غير الكلام، تصفقون بأيديكم، وفي الخارج تجلدون بعضكم بألسنتكم، وكأن أيديكم خلقت للتصفيق فقط، ومع كل تلك الأصوات المخيفة التي بداخلكم، وبين كل هذا الضجيج الأسود تحاولون الدخول إلى عالمكم للبحث عن مخلص لكم، فلا تجدون سوى جثث قد تهالكت عظامها، جثث بداخلها كره شديد لعالم تنتمون إليه، بهذه الجمل التي يلقيها ذلك الشبح الأسود الذي يظهر في عمق الخشبة معلقاً على مصائر الشخصيات، تنتهي مسرحية انعكاسات التي ألفها د. علي العنزي وأخرجها خالد أمين لفرقة المسرح الشعبي في الكويت، وعرضت مساء أمس الأول في قصر الثقافة في الشارقة، ضمن عروض الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، وكأن تلك هي خلاصة العرض، والمقولة التي يريد أن يوصلها إلينا من خلاله، فهل نجح في ذلك؟ تفتتح المسرحية على 3 شخصيات، رجلين وامرأة، مسجاة في أماكن متفرقة من الخشبة، كل منها تحت خط ضوئي يمتد على عرض الخشبة، وما بين الخطوط ظلام، يجلس الرجل الثاني ويبدأ في الاستغفار والتوبة، ويتمنى ألا يكون قد مات لكي يستطيع أن يتوب من ذنوبه الكثيرة، ثم يتهاوى، ليجاهد الرجل الأول الذي في مقدمة الخشبة حتى يجلس، ويردد أنه ميت منذ مئة عام، وتحديدا منذ 2 نوفمبر 1917، حيث دفن من دون كفن ومن دون أن يغسل أو يصلى عليه، ويبدو هذا التاريخ مفتاحاً من مفاتيح المسرحية، حيث ستردده الشخصيات أيضاً في نهايتها، وهو تاريخ إصدار وعد بلفور المشؤوم، الذي أعطت بموجبه الامبراطورية البريطانية المحتلة الحق لليهود بتكوين وطن قومي لهم في فلسطين، ويتهاوى الرجل الأول ليقوم الأوسط ثانية ويشكو من شخص آخر أو ربما شيطان متلبس به، يدفعه للشر، ولا يتركه يتوب. بعد ذلك تتحرك المسرحية عبر عدة لوحات، بدأت بالرجل الأول وهو يتذكر كيف مات بسبب دواء قاتل أعطاه له الطبيب مدعياً أنه مسكن لألم الرأس الحاد الذي كان سيطر عليه، ثم لوحة الزوجين اللذين أجرا توا شقة في حي راقٍ بعد أن باعا شقتهما في حيهما القديم لأن الزوجة أرادت أن تباهي صديقاتها بأنها تسكن في ذلك الحي الراقي، فهي لا تهتم إلا بالمظاهر وترهق كاهل زوجها بسبب ذلك، ثم تلك الخادمة المنزلية المهاجرة التي كانت تحلم بأنها ستحصل على مال تبني به منزلاً في وطنها يؤويها هي وزوجها وابنهما، فإذا بها عرضة لنزوات طائشة لرب البيت الذي تخدم فيه، ثم لوحة الرجل الذي انفصل عن زوجته، بسبب شكوكه فيها، وأخيرا لوحة الإرهابي السجين وسجانه الذي سيقتله انتقاماً لابنه الذي مات ضمن إحدى التفجيرات التي قام بها ذلك الإرهابي. لن يكون البحث عن حبكة درامية مدخلاً صحيحاً لعرض انعكاسات فهو عرض تجريبي من عروض ما بعد الدراما، لكنّ العروض التجريبية يفترض فيها أن تقدم رؤية، وأن تعطي مفاتيح لتلك الرؤية، يمكن من خلالها استنباطها، وعندما أطر المخرج العرض في البداية والنهاية بتاريخ وعد بلفور فإنه أراد بذلك أن يوجهنا نحو دلالة معينة أو رؤية معينة، هي حالة العرب خلال مئة عام من مقاومة المحتل الإسرائيلي، هكذا يفترض، لكن اللوحات الخمس التي دار عليها العرض لا تمت بأدنى صلة لقضية فلسطين، ولا يرد فيها ذكرها بحال من الأحوال، فهي تتناول قضايا نفسية اجتماعية خاصة بأصحابها، فقضية فلسطين تبدو مقحمة في البداية والنهاية، وحتى لو قبلنا بتعليق الشبح في آخر العرض، واعتبرنا أن العرض يصف حالة العرب خلال مئة عام هكذا أنتم، ولن تكونوا سوى هكذا، فإنه كان ينبغي أن توحي اللوحات بسؤال ضمني يتكرر عبرها، وأن يسيطر على الشخصيات هم أكبر من همومها اليومية الخاصة، أو سؤال وجودي، لكي يكون للجواب النهائي معنى، لكن هذا لم يكن، ففي كل اللوحات لم يكن لدى الشخصيات شيء أكبر من همومها الخاصة، ولم تكن مؤرقة بسؤال وجودي من أي نوع، ولئن ماتت متحسرة على شيء فإنه بالتأكيد، لم يكن هماً عربياً. قد يكون كل من الكاتب والمخرج قصدا إلى هذه النتيجة، فهناك من اتجاهات التجريب، ما يعتمد فكرة التنفيذ لمجرد التنفيذ، أي القيام بالعمل، دون التخطيط المسبق لرؤية ما تاركاً صناعة المعنى للمتلقي دون أن يعطيه أي مفاتيح لذلك، وهذه إحدى سمات الحداثة العدمية التي تجد لها رواجاً عند طائفة من الفنانين والأدباء والمسرحيين، لكنها مثلها مثل العبثية والسوريالية، تيار غير قابل للتطور والاستمرار، ويبقى الفن والأدب والمسرح صياغة جمالية وفكرية بأدوات محددة قابلة للتأويل وإحداث الأثر في المتلقي. يحسب لهذا العرض القدرة الكبيرة للممثلين الثلاثة: علي الحسين، وأحمد العوضي، وروان مهدي، كما كانت المعزوفات الموسيقية التي أداها أحمد الصانع ذات تأثير كبير في خلق أجواء الأحداث، أما الإضاءة فكان فيها اجتهاد جيد في بعض الأحيان، لكن حدث فيها خلط في أحيان أخرى، عندما كان الممثلون يتواصلون وهم في بقع ضوئية تفترض اختلافاً في الزمن، وقد اختار المخرج أن يترك الأزياء كما هي أزياء رثة كأنها أزياء موتى، وربما يكون ذلك مفهوماً في إطار التجريب، حدّ من قدرة المتفرج على اكتشاف الفروق بين الشخصيات في أدوراها المتعددة، وكذلك الفروق بين الأزمنة المختلفة.