×
محافظة حائل

"الأرصاد": أمطار رعدية على بعض المناطق

صورة الخبر

لا ننكر أن عيد الحب مناسبة لتسويق مشاعر سطحية يتم تسميتها بالحب. ولكن نجد في مدخراتنا وانتاجنا الثقافي مقاومة لهذه المناسبات السوقية وتمجيدًا للحب خارج إطار السوق. كتب أريك فروم في منتصف القرن الماضي أن الحب خيار وليس احساسًا في كتابه "فن الحبّ" (١٩٥٦)، عالـمًا أن الحب انجرّ إلى ممارسة استهلاكية تحوّل نَفْسَ الإنسان إلى سلعة. فهم فروم أن المفهوم الاقتصادي الاستهلاكي يقتل ممارسة الحب الفعلية ويستبدلها بعملية حسابية مجموعها صفر. أضاف جورج باطاي، الفيلسوف الفرنسي، إلى تنظير أريك فروم مفهوميّ الاقتصاد المحضّ (الذي يقف على التبادل) والاقتصاد الشمسي (الذي يعترف بالإنفاق والبذل). عندما نضحي بكل ما لدينا في سبيل من نعشقه، نحب محاربةً ضد النظام الرأسمالي والثقافة الاستهلاكية. توّج جيل دولوز فكره الفلسفي بفكرة الرغبة-الإنتاج حيث كل ذات إنسانية تتفاعل رغبةً وانتاجًا مع كل ما حولها. ويغني مازن السيّد الملقّب بالراس في ألبومه الأخير، إدارة التوحّش، عن مذهبه العشقيّ، معبّرًا عن حبه عبر مجازات اقتصادية تربط كلماته بنظريات فروم وباطاي ودولوز، التي تتجسّد بفهوم "اقتصاد الرغبة" في أغنية "تما يقولوا عنّا". ​اعلان تبدأ أغنية "تما يقولوا عنّا" بالكشف عن المقولة التي تعيّن حدود العلاقة التي يغني عنها الراس: "باقتصاد الرغبة انت الغالي قبل العملة". في جملة، يأتي اقتصاد الرغبة ليحلّ مكان اقتصاد السوق، تنزلق العملة من مؤشّر قيمة إلى مؤشّر عديم القيمة. في تعريف اقتصاد الرغبة الذي يُبنى عليه مذهب الراس العشقي، يجب التخلي عن كل فئات ومعايير اقتصاد السوق، ف"باقتصاد الرغبة انت تجلي فشلي بالإدخار / وفشل التجار وفشل الجنزير بتحديد مساحة اللقاء." خارج أطر التبادل ومساحات السوق، يقوم اقتصاد الرغبة على تشغيل الفائض إلى حدّ "الإعجاز"، أو إلى الاضطرار على إعادة تعريف الكلمات. الرغبة نفسها تتحول عندما ننظر وننظّر ممارستها خارج إطار التبادل ومن خلال الاقتصاد الشمسي. تتغير علاقة الحب والصدق مع الرغبة. وإذا تغيّر معنى الكلمة وممارستها فيتغيّر ايضًا تطبيقها. فالرغبة في الاقتصاد الشمسي تفيض حدود الجسد الفاني عابرة من شخص إلى شخص آخر، وتتخطّى الحدود المعتادة لتصبح طاقةً بلا حدود. في مذهب العشقِ هذا، سبيل الرغبة ليس عيبًا، إنّما "العيب مش الرغبة، عيب بالكذبة" أي كبحها ضمن إطار الاقتصاد المحضّ الذي ينتج منه المعيارية على أساس الغيرية الجنسية (heteronormativity). لا وجود لأيّ استغلال في اقتصاد الرغبة، فلا وجود لمبغى الربح الرأسمالي. كل شخص يجسّد "مكنات [و] مصانع تعمل من دون كلل والعامل سيّد آلته". وذلك تصوّر لاقتصاد اشتراكي يعتمد مبدأ الرفاهية الكومونية الذي اعتمدته كومونة باريس والذي يستبدل العمل المأجور بالعمل من اجل احتياجات الكل. هنا "ثمرات مزارع والميّ بتكرج زلل بوديان دون سدود / ما في زاوية بتضّل دون عناية / ممنوع حدا ينام بمعدة خاوية / تما يقولوا عنّا أنت وانا عتلالنا في طير نام جوعان." اقتصاد الرغبة يرفض اقتصاد السوق الرأسمالي الذي يقسم الناس إلى فئتين: الذين بطونهم كاملة والذين بطونهم فارغة، السراقين والمسروقين. تكمن فكرة الحرية في اقتصاد الرغبة في صورة طائر حر يحلّق فوق حدود الفصل وجدرانها. ينتهي المقطع الأوّل للأغنية بتعريفات إيجابية لاقتصاد الرغبة: هو اقتصاد بلا حدود، اشتراكي، غير استغلالي، ويبتعد عن المعيارية على أساس الغيرية الجنسية. في المقطع الثاني يقيم الراس مفارقة بين الاقتصادين. تتغير موسيقى الناظر من مقطع موسيقيّ يتطوّر (كما في المقطع الأوّل) إلى ميزان موسيقي يكرّر نفسه لترافق هذه المفارقة. اقتصاد الرغبة اشتقاقي وعشوائي ولكن لا يمكن دراسته عبر حساب التفاضل والتكامل العشوائي (stochastic calculus) الذي به يتم التعامل مع اقتصاد السوق. أزمات اقتصاد الرغبة هي العشق نفسه، هو "الأزمة غير المحسوبة بلحظة مش مدروسة". علينا استقبال هذه الأزمة، فهي تتضمن انفتاح على ما هو واجب بذاته ويظهر كالممكن بذاته. رفضًا لمبدأ التبادل يكون الإكتفاء الذاتي عبر تنوّع الموارد كافيًا لتفادي اقتصاد "الفقر المدقع" الذي يمارسه "الأناني" و"الجشع". اقتصاد الرغبة يحول العشق إلى "حرفة" بذاتها. الرغبة متعدّدة وكاليد الواحدة لا تصفّق، يحلّ الصمت في وحدتها، وفي مشاركتها تصبح الفًا. اقتصاد الرغبة يتحدّى قواعد اللغة سحرًا، فيندمج المفعول به (المرغوب) بالفاعل (الراغب) في ممارسة المصدر الرغبة: "مع اني الراغب انت الفاعل فيها وانت المصدر". هذا الاقتصاد يتحدّى الزمن ايضًا، ففي فجره وغروبه لا ينطفئ اقتصاده الشمسي. بل يتحول من شرنقة إلى فراشة في ليلة يصبح كل مثنى جمعًا في فيضان لمعاني الكلمات وتستباح النشوة دمعًا. تنتهي الأغنية بتكرارين. الأول تكرار للازمة الأغنية "تما يقولوا عنا انت وانا على تلالنا في طير نام جوعان" والثانية مقطع من أغنية عازار حبيب يغني بها الكورس "لو عرفوا اهلك فيّي". تجاور هذين التكرارين يأتي تأكيدًا لوجود العالمين والاقتصادين في آن واحد وعلى ضرورة الفرد أن يفاوض بين العالمين: العالم الذي يرفض العشق باسم "العيب"، وهذا العالم تجسدّه أغنية عازار حبيب. أما العالم الثاني، فهو عالم اقتصاد الرغبة يرفض "عيب الرغبة" والذي يبرز كممارسة ضرورية تحرّر الفرد باسم مذهب الراس العشقي. عوّدنا الراس أن يطبّق مبادئ اقتصاد الرغبة عبر توفير كل انتاجه الموسيقيّ بشكلٍ مجاني على صفحته على "الساوند كلاود". في ممارسة هذا المذهب العشقي، يطبّق ايضًا مذهبه الصوفي والإسلامي. وعلى هذا المنوال، نتذكر كلمات ابن عربي: لقدْ كنتُ قبلَ اليـومِ أُنكر صاحبي            إذا لم يكن ديني إلى دينِهِ داني وقـد صـار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ          فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ وبيـتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائـــفٍ              وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ أدينُ بدينِ الحبِّ أنـىَّ توجَّـهـتْ            ركائبه فالحبُّ ديني وإيمانـي هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. زياد الدلّال طالب دكتوراه في الأدب المقارن في جامعة نيويورك. نُشرت مقالاته في صحيفة السفير وفي مجلّة بدايات. يهوى القراءة ومشاهدة الأفلام ويعشق الأكل والطبخ. يكتب عن الأدب والموسيقى والثقافة. كلمات مفتاحية مدونة التعليقات