لا أعلم بالضبط كيف أبدأ تدوينتي، ولا كيف أرتب كلماتي، وأحاسيس الغضب والسخط تلتف حول ذاكرتي، كان لقاؤنا الأول قبل أسابيع قليلة، كنت على موعد مع أصدقائي لتناول العشاء، تعطل هاتفي وأنا لم أصِل للمكان المحدد بعد، سألتها عن العنوان، فاستخدمت هاتفها لترشدني إلى المكان المقصود، لم تذهب في حال سبيلها إلا بعد أن تأكدت أنني في المكان الصحيح، تبادلنا أطراف الحديث على طول مسافة الطريق وأرقام الهواتف على أمل اللقاء مجدداً. التقيتها البارحة لتناول وجبة الغداء، نسرين بريطانية مسلمة، والدتها صينية جامايكية، ووالدها أميركي جنوب إفريقي، وُلدت وعاشت سنوات طفولتها الأولى ببريطانيا، قبل أن تنتقل رفقة أسرتها إلى أحد البلدان الخليجية (الملتزمة)، وهناك ستكتشف نسرين حياة أخرى لم تتوقعها أبداً، تحكي بكل براءة: كنت أسمع قرار المعلمة ترفض أن تعطيني الدور الرئيسي في المسرحية الفلانية، أو أحياناً ترفض أي دور مهما كان بسيطاً، وتختار رفاقي دون أي سبب، كنت أسمع بعض الكلمات والإجابات، ولأن لغتي العربية لم تكن جيدة، لم أكن أفهم ما يجري، كنت صغيرة السن أولاً، ولأنني درست نصف المرحلة الابتدائية ببريطانيا، لم يعاملني أحد من قبل بأي نوع من العنصرية أو التجاهل أو التنقيص منّي، كنت مثلهم جميعاً ألعب مع رفاقي الإناث والذكور، أستمتع بوقتي وأدرس كباقي التلاميذ، هناك في جدة لم أكن أستوعب بعد المقام الذي يضعني الناس فيه؛ لأن بشرتي سمراء! تقدمت لأول وظيفة لي، تم الاتصال بي بعد مدة قصيرة جداً: جنسيتي البريطانية ومؤهلاتي في اللغة الإنكليزية، ونقاطي الجيدة جداً، ما إن أذهب للمقابلة المباشرة يقول لي الشخص المسؤول: أنت فلانة؟ البريطانية؟ لِمَ بشرتك داكنة؟ لم أتوقع أن بشرتك داكنة، لا يمكن أن تعملي معنا..الوظيفة الأولى والثانية والثالثة والرابعة. أخيراً فقدت الأمل في إيجاد وظيفة تناسب طموحها وكفاءاتها، حالياً تعمل في إحدى الوظائف الجيدة هنا بلندن، تركت أسرتها وكل أفراد عائلتها، تعمل هنا لتوفر مصاريف الدراسة ببريطانيا؛ لأنها لا تستطيع أن تدفع تكاليف دراستها الجامعية بجدة ما دامت لا تملك جنسية البلد الخليجي الذي تعيش عائلتها فيه. وأنا أعدد المواقف التي حصلت معها، مواقف العنصرية والكراهية والتخلف الفكري والجهل الديني بسبب لون بشرتها، لم أجد ما يمكنني أن أواسيها به، كيف أواسي غربتها؟ كيف أواسي إحساسها؟ كيف أواسي روحاً جميلة.. فراشة كانت أسيرة عقد مجتمع لا يستطيع أن يستوعب أن ألوان البشر ليست من اختيارهم، وأن عليهم تقبل الناس كيف ما كانوا، فلا الأصل ولا العِرق ولا السن ولا اللون يهم ما دام هو إنسان يملك عقلاً وقلباً وروحاً، لكنها الآن تحلق لتحقق أحلامها الكبيرة جداً، بحجابها الذي لم تنزعه على عتبات الطائرة، بكلماتها المليئة إيماناً بالله وعزيمة وتوكلاً. حقيقة الأمر، هي لا تحتاج لمن يواسيها؛ لأنها أصبحت أقوى الآن، بل رغم كل ذلك ما زالت تعتبر ذلك البلد أهلها وموطنها الذي تريد أن تعود إليه، أتمنى ألا يعيش أطفالها مستقبلاً ما عاشته هي، وأن يكون المجتمع قد تغيَّر للأفضل واستوعب ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى..". ننتقد سياسات ترامب حول المسلمين والمهاجرين وننعته بأسوأ الأوصاف، سياسته التي تدعم الكراهية والعنصرية تجاه الأقليات وتجاه المسلمين خصوصاً، ونحن نتعامل بيننا بأقصى مراتب العنصرية والكراهية، اختلافنا يعني قتالنا مع بعضنا البعض: سني أم شيعي، أبيض أم أسمر، خليجي أم مصري أم مغربي أم عراقي أم يمني أم سوري.. محجبة أم منتقبة أم غير محجبة! بل حتى أن تشجع فريقاً ما يمكن أن يجلب لك وابلاً من السب والقذف والتجريح. قبل أن نطالب بتغيير السياسات الغربية، فلنُغيِّر تصرفاتنا وأخلاقنا تجاه بعضنا البعض، ولنرتق في تفكيرنا ونمحُ آثار الجاهلية التي تنخر مجتمعنا، مهما اختلفت المعالم التي تبرزنا، نظل ذلك الإنسان الذي لن تستطيع أن تلغي وجوده؛ لأنه لا يتناسب مع معاييرك التي تفضلها، نظل ذلك الإنسان الذي يجب عليك أن تتقبله شئتَ أم أَبيتَ. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.